بعد مرور خمس سنوات على بداية أزمة المال العالمية، هل يمكن الزعم بأن ثمة بوادر للانتعاش؟ هناك مؤشرات إيجابية في البلدان الرئيسة، ففي اليابان تشير بيانات لوزارة المال إلى أن قيمة الصادرات ارتفعت خلال تموز (يوليو)، وتؤكد تقارير رسمية أن انخفاض سعر صرف الين ساهم في تحسن الطلب على السلع والبضائع اليابانية في أسواق التصدير التقليدية، خصوصاً الأميركية والأوروبية والآسيوية. لكن هذا التحسن في الصادرات اليابانية لم يمكّن من خفض عجز الميزان التجاري الذي ظل في تموز كبيراً ويعادل 10.4 بليون دولار.
ويخشى المسؤولون في وزارة المال اليابانية من أن انخفاض سعر صرف الين، على رغم تعزيزه الصادرات، يزيد تكاليف الواردات، خصوصاً النفط الذي لا تزال أسعاره مرتفعة ولا تبدو في طريقها إلى الانخفاض. لكن اقتصاديين يابانيين يميلون إلى الاعتقاد بأن البلاد في طريقها نحو الخروج من حالة الركود التي عانتها على مدى العقدين الماضيين. وفي عودة إلى صادرات تموز كان الارتفاع بنسبة 12.2 في المئة عما كان عليه في تموز 2012، وهذا تحسن مهم خلال سنة.
أما في الولايات المتحدة التي تمثل أهم سوق لصادرات البلدان الصناعية الرئيسة الأخرى، فيعزز ارتفاع ثقة المستهلكين وإقبالهم على الشراء والطلب على الخدمات، إمكانات التحسن في أداء اقتصادات الكثير من البلدان.
وواجهت الولايات المتحدة على مدى العقود الخمسة الماضية تحديات هيكلية مهمة تمثلت بفقدان الكثير من صناعاتها الميزات النسبية التي تمكنها من المنافسة محلياً وخارجياً، وشملت التحديات أحياناً عدم الاستمرار ومواجهة الإفلاس والخروج من السوق. وبلغت هذه التحديات مراحل متقدمة في عدد من الصناعات وقطاعات الأعمال ودفعت شركات إلى تسريح عاملين أو نقل أعمالها.
وتشهد مدن صناعية رئيسة في الولايات المتحدة إفلاسات على صعيد الإدارات المحلية بعدما خرجت منها شركات كثيرة فانخفضت الضرائب التي تحصلها. ومن هذه المدن مدينة ديترويت التي كانت تُعتبَر عاصمة صناعة السيارات في العالم، فهي أعلنت إفلاسها رسمياً وتواجه الآن مشاكل مهمة مع العاملين في القطاعات الخدمية فهم يطالبون بتعويضات عن خدماتهم الطويلة، ومنهم رجال الشرطة والمطافئ.
ولا شك في أن هذه الأوضاع الصعبة تؤكد أن الولايات المتحدة تواجه تحولات ناجمة عن تطورات في الاقتصاد العالمي والتحولات التقنية التي فرضت استحقاقاتها على آليات الاقتصاد القديم أو التقليدي ودفعت إلى الخيارات الصعبة التي اعتمدها أصحاب الأعمال ثم الإدارات الحكومية المحلية والفيديرالية.
ويبدو أن سياسات المال التي اعتمدت في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بلدان منطقة اليورو التي تواجه استحقاقات الديون السيادية، أصبحت تحظى بالقبول السياسي من الأحزاب والتيارات السياسية بمختلف توجهاتها، فلم تعد هناك خيارات اقتصادية أخرى. وبعد موجة الاعتراضات والإضرابات العمالية تمكنت حكومات اليونان والبرتغال وإيطاليا وإرلندا وإسبانيا من توفيق مواقفها والحصول على تأييد برلماناتها.
ويتضح من سياسات المصرف المركزي الأوروبي أن مسألة الانتعاش أصبحت منوطة بتعزيز مؤسسات الأعمال الخاصة ودفعها إلى التوسع في الاستثمار وتأمين التمويلات الملائمة لها بمقتضى شروط ائتمانية معقولة. وأدت أزمة الديون السيادية في بلدان اليورو إلى مراجعات مهمة في التوجهات الاقتصادية وإعادة نظر في فلسفة دور الدولة في العمل الاقتصادي وخفض الأعباء الاجتماعية والتوقف ملياً أمام أنظمة التقاعد والتأمينات الاجتماعية.
ولا بد لبلدان الاتحاد الأوروبي، التي شدّدت على أهمية إنجاز عمليات التوحيد في مختلف مجالات الاقتصاد والحياة الاجتماعية والأنظمة السياسية، من أن تعمل على تجاوز الأوضاع الصعبة التي مرت بها خلال السنوات الماضية من خلال تبني استراتيجيات واقعية وإن مؤلمة في المدى القصير، وهي استراتيجيات تعني مزيداً من الخفض للإنفاق العام والتحفيز لآليات قطاع الأعمال ليتحمل مسؤوليات أكبر في إنجاز عمليات الانتعاش الاقتصادي.
لا يمكن الاقتصاد العالمي أن ينتعش في صورة مؤكدة من دون انتعاش الاقتصادات الرئيسة المشار إليها آنفاً، ولا يمكن حتى اقتصادات بحجم الاقتصاد الصيني أو الاقتصاد الهندي أن تتطور وتحقق النتائج الإيجابية من دون تحسن أداء الاقتصاد الأوروبي أو الأميركي. وثمة عوامل مؤثرة أخرى يمكن أن تحدد مدى الانتعاش الاقتصادي في مختلف البلدان ومن أهمها العامل الديموغرافي، فالبلدان الأوروبية واليابان، وإلى درجة ما الولايات المتحدة، تشهد ارتفاعاً في أعداد كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة، وهم خارج قوة العمل، وتدنياً في معدلات النمو السكاني. وهذا يعني أن هذه البلدان تتراجع لديها معدلات نمو الطلب على السلع والخدمات وترتفع تكاليف الرعاية الصحية والخدمات المتعلقة بكبار السن.
هذه المتغيرات لا بد من أن تمثل مدخلات مهمة في صياغة استراتيجيات اقتصادية مناسبة. وعلى هذه البلدان الصناعية أن تفترض أن الأسواق التصديرية باتت مهمة، حتى تلك الأسواق في البلدان الأقل نمواً، ما يعني توظيف مزيد من الأموال في البلدان الأخرى وتطوير قدراتها الاقتصادية والارتقاء بمستويات شعوبها معيشياً. لذلك، فالانتعاش الاقتصادي في أي من البلدان الرئيسة سيظل يعتمد على تحسن اقتصادات أخرى كي يضمن الديمومة وتحقيق النمو المناسب.
ابق على اطلاع بآخر المستجدات.. تابعنا على تويتر
تابِع