الدولار الداء والدواء لأمريكا

21/07/2013 12
محمد العنقري

لم يعد خافيا على احد ان الدولار الأمريكي لا يغطى بالذهب كحال الكثير من العملات وأنه يطبع وفق حالة خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على قوة اقتصادها وحجم إنتاجه إلا أن هذا الأمر خطير في وضعية الدولار بأنه أصبح عملة الاحتياط الأولى في العالم والأكثر أهمية فجميع السلع تقيم بالدولار.

وصحيح أن أمريكا أعطت ثقة للدولار دائماً وأنه قاوم الكثير من الأزمات الاقتصادية والحروب الأمريكية لكن تحوله لأن يقيّم كل شيء على وجه الأرض بالدولار ويكون عملة تبادل السلع يعد خطيراً جداً فقد أصبح العالم مرهوناً للدولار ولم تعد أمريكا تطبع الدولار لاقتصادها فقط، بل للعالم واحتياجاته وتدخل فقط ما تحتاج من عملة باقتصادها لكي تمنع التضخم عنها لكنها بنفس الوقت بهذا الكم الهائل من حجم الدولارات المطبوعة للعالم صدرت التضخم لهم فالدولار فقد أكثر من تسعين بالمئة من قيمته خلال قرن كامل، بل إن بعض الدراسات ترى أن دولار 2013 يعادل 4 سنتات لدولار العام 1913م.

ومن هنا تأتي الخطورة على الاقتصاد العالمي إذ لا يشعر المواطن الأمريكي بكارثة الدولار داخل وطنه فعملته يحميها الاقتصاد العالمي أكثر من اقتصاد أمريكا نفسه فالطلب على الدولار يبقيه بوضع صحي فهو محمي من كل السلع العالمية وهي غطاؤه الحقيقي لأن كل شيء يتم بيعه وشراؤه بالدولار بالأسواق الدولية مما أدى لزيادة الطلب على الدولار وساهم ذلك بتراجع قيمته مما أدى لتصدير التضخم للعالم على المدى الطويل أي لعقود وليس لسنوات قصيرة يتحسن فيها الدولار عندما تريد أمريكا جذب الأموال لداخل اقتصادها لزيادة الاستثمار فيه وهي تلجأ للتخفيض بقيمته بالشكل الخفي على مدى عقود طويلة لتبقي صناعتها تنافسية عالمياً.

ولكن بالمقابل فإن الدولار أيضاً داء على أمريكا وعلى العالم ولكن فيما يخص أمريكا فإن كل مستقبلها حتى اتحادها الفيدرالي أصبح مرهوناً للدولار فهو الضامن الوحيد لبقائها متحدة، بل إن بعض رسامي الكاريكتير الساخرين يضعون الدولار على هيئة علم أمريكا الحقيقي فحروب أمريكا أصبحت بالحقيقة للدفاع عن الدولار فاحتلال العراق أحد أهدافه حماية الدولار إذ إن العراق فكر ببيع النفط باليورو وحتى لا تصبح ظاهرة تنتقل خطورتها إلى أن يلغى الدولار من معامل تقييم السلع وعلى رأسها و الأهم بينها النفط.

فأمريكا التي تفتخر بعملتها أنها حققت لها سيادة عالمية تشعر بخطر الدولار عليها أيضاً كدولة متحدة فإلى متى ستبقى هذه اللعبة وخيوطها صالحة لأليات عمل الاقتصاد العالمي فأي تحول أو تغيير تفرضه ظروف مستجدة أو تكتلات وتحالفات اقتصادية تستطيع أن تصل لصيغة تعامل لتبادل السلع وتقييمها ستضرب أهمية الدولار وستعود الدولارات لداخل أمريكا التي ستضطر لحرقها لمنع التضخم ولكن سيقابله تقلص بحجم الإنتاج الأمريكي لأن الاستثمارات لن تعود للدولار بنفس الحجم لاقتصادها وستتقلص احتياطيات الدول من الدولار وهنا سينكمش اقتصاد أمريكا وربما يدخل بكساد عميق سيؤدي حتماً لانهيار العملة لديهم وهذا ما سيعجل باحتمال بتفكك الاتحاد الفيدرالي نفسه فالجميع سيتهرب من مسؤولية تكلفة الخسائر الاقتصادية والديون على الدولار ولذلك نجد أمريكا تتجه لإقامات تحالفات اقتصادية سياسية بمختلف مناطق العالم وعلى رأسها من الأولوية الآن هو منطقة دول الباسيفيك إذ تريد أمريكا أن تكون قريبة من الصين لكي تفرض عليها ضغوطها بمختلف الطرق فبحر الصين تعبر منه تجارة تقدر قيمتها بخمسة ترليونات دولار وإذا سيطرت أمريكا عسكرياً وسياسياً على تلك المنطقة من خلال تحالفها مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية فإن الصين ستبقى محاصرة من أمريكا بالإضافة إلى الوسائل التي تستخدمها للتأثير على الصين وكافة القوى الاقتصادية الكبرى.

إن أمريكا اليوم من خلال استعراض لمشهد اقتصادها الذي لا يرتكز حقيقة إلا على الدولار والطريقة التي حولته بها إلى عملة احتياط عالمية بامتياز تعلن أيضاً لإبقائه على وضعه ولكن لا يمكن أن تبقى قادرة كل الوقت على ذلك وحتى دورها بمجموعة العشرين حالياً تجده ينصب على الإبقاء على الدولار بوضعه العالمي الحالي وتتحرك سياسياً وعسكرياً بكل بقاع الأرض لكي تساند هذه الجهود إلا أن الحياة لم تعرف أبداً ديمومة حال معينة كما هي ولذلك فإن على الدول التي تربط احتياطياتها وعملاتها بالدولار أن تنتقل من هذه المرحلة من الآن فمازال الوقت بصالحها.

أن الانتقال الصحي لأي دولة تمتلك دولارات بكميات ضخمة من احتياطياتها كدول الخليج والمملكة على رأسها لديها فرصة تاريخية للتحول عن جمع الدولارات بأن تحول هذه الاحتياطيات لمصانع واستثمارات إنتاجية على أراضيها بالإضافة لتنويع الاحتياطيات تدريجياً ليتسنى لها على مدى عقدين أن تصل لمرحلة تعويم العملة وإلغاء ربطها بأي عملة دولار أو غيره.. إن الرصيد الحقيقي للمملكة هو تحويل هذه الأموال إلى مصانع ومشاريع تستثمر فيها رأس المال الحقيقي وهو شبابها المتعلم والقادر على لعب دور بارز بالتنمية لكي نبتعد عن داء الدولار القادم لا محالة مهما طالت السنين مع التركيز على الذهب كاحتياط حقيقي لأنه سيبقى الملاذ الآمن بأي زمن وسيضطر الجميع للعودة له كاحتياطي رئيس، بل إنه يجب شراء كل ما تنتجه معادن محلياً ومنع بيعه بالأسواق العالمية لأنه ثروة مهمة لا يجب أن تخرج من اقتصادنا.

أمريكا اختارت أن يكون الدولار سلاحها الرئيس للسيطرة والهيمنة الاقتصادية العالمية ولكنه بالمقابل الصورة ليست وردية دائماً إذ إن لذلك ثمناً باهظاً بتكلفة حماية الدولار وكل الخطط التي استخدمت سابقا بدات تستنفذ ولذلك تجدها دائماً تخرج بتصورات جديدة واتجاهات سياسية واقتصادية مبتكرة للحفاظ على هيبة الدولار ولكن التحديات تكبر وفرص البقاء للدولار بقوته الحالية تتراجع وعلى الجميع أن يعلق جرس الإنذار مبكراً ويستعد لأسوء سيناريوهات انهيار الدولار القادم ولو بعد سنين طويلة، فالتحول الاقتصادي وتغيير الإستراتيجيات يأخذ وقتاً ولا يمكن لك ان تحل المشكلة بوقت قصير فمثل هذه المعالجات تأخذ سنوات طويلة من العمل الجاد المبني على رؤية وتخطيط عميق ومتوازن.

نقلا عن جريدة الجزيرة