لم يكن أحد ليصدق لو جاء أحد قبل سنوات قليلة وتنبأ بأنه يمكن أن ينشأ وضع أزمة اقتصادية تضطر فيها دولة إلى إغلاق بنوكها لمدة تزيد عن الأسبوع وتنفد فيها الأموال من ماكينات الصرف الآلي، ويجد المودعون أنفسهم مضطرين إلى دفع ضريبة باهظة على ودائعهم من أجل إنقاذ الاقتصاد، لكن يبدو أن الألفية الحالية التي حملت معها أشياء لم تكن متصورة بدءا من انهيار مؤسسات مالية ضخمة أدت إلى ركود وأصابت دولا صناعية كبيرة ستجعل الناس تغير الكثير من المسلمات التي كانوا يعتقدون فيها، ونسوا أنه لا يوجد شيء في عالم المال خال من المخاطر. فلكل شيء خطره بنسبة معينة.
وقد جاء الاتفاق المؤلم في الساعة الحادية عشرة قبل منتصف الليل حسب التعبير الغربي، أي في اللحظة الأخيرة قبل أن يوقف الاتحاد الأوروبي شريان الحياة المالي إلى الجزيرة التي أصبح يتعين عليها إغلاق أحد بنوكها الكبيرة المتعثرة، وفرضت ضرائب يقدر البعض أنها قد تصل إلى 40% وربما أكثر على كبار المودعين الذين تتجاوز ودائعهم الـ100 ألف يورو.
فاتورة باهظة تدفعها قبرص، وقد تستمر تداعياتها لـ5 أو 10 سنوات مع فقدان الكثير من الوظائف حتى تبعد عن نفسها شبح الإفلاس المالي، وربما تمتد التداعيات إلى الاتحاد الأوروبي نفسه الذي وجد خلال العامين الماضيين عددا من الأعضاء الجنوبيين فيه، بما في ذلك اقتصاد صناعي كبير مثل إيطاليا، يواجهون متاعب مالية غير مسبوقة، ويضطرون إلى فرض إجراءات تقشف غير شعبية تسببت في احتجاجات لم تتوقف حتى الآن، خاصة في اليونان وإسبانيا.
قد تكون الأزمة القبرصية حالة كلاسيكية لاقتصاد توسع بأكثر مما يحتمل وتخلى عن قواعد السلامة في مصارفه،سعيا وراء جذب الأموال عن طريق البنوك التي كانت تغري أصحاب الأموال والودائع من الخارج، خاصة الأغنياء الروس، بفوائد مرتفعة عن بقية الاتحاد الأوروبي مع ميزة أنهم داخل القارة باعتبار قبرص دولة عضوا. لكنها ليست الوحيدة التي فعلت ذلك فهناك الكثير من الاقتصاديات لجأت لذلك بحثا عن الاستثمارات وهي تعرف أن الفوائد المرتفعة تعني أنه يجب أن يكون العائد من توظيف هذه الأموال أعلى حتى تستطيع الدفع للمودعين والاحتفاظ بنسبة ربح. هذه الممارسات قد تمر من دون ضرر في زمن النمو والفورة، لكنها تكون قاصمة في أوقات الأزمات، وقد كانت هناك أزمة شبيهة قبل سنوات في آيسلندا التي كانت مصارفها تجذب المودعين من دول أوروبية أخرى بفوائد مرتفعة، فوجد هؤلاء أن ودائعهم في خطر، وجمدت أصول آيسلندية خارجية لتغطية هذه الودائع.
هل هناك دروس من الأزمة القبرصية يستفاد منها عربيا؟ بالتأكيد هناك دروس وعبر؛ فحدوث «قبرص عربية» أو حالات مشابهة أمر ليس مستبعدا، فنصف العالم العربي يواجه حاليا أكثر من مجرد خطر الإفلاس في ضوء العواصف السياسية التي مر بها والتي ضربت اقتصادياته، وبعض هذه الممارسات المصرفية أو سياسات التوسع غير الرشيد قائمة بالفعل.
والدرس الأهم هو اتباع القواعد الصحيحة، والتحوط للمستقبل باتباع قواعد السلامة المعتمدة عالميا، وضبط التوسع غير الرشيد في الإنفاق والاستهلاك يجعل السفينة أكثر ثباتا في مواجهة أي عواصف أو رياح غير مواتية قادمة من الخارج، فالعالم كله يتأثر ببعضه سلبا وإيجابا.
وما يجب ملاحظته هو المفاوضات القاسية التي أجرتها الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا ومعها صندوق النقد الدولي، مع الحكومة القبرصية لفرض الاتفاق الذي ينص على أن تجد الحكومة وسيلة لتحمل جزء من العبء المالي مع التهديد بقطع شريان المساعدات، فقد تغير المزاج الدولي بعد سلسلة الأزمات التي نتجت عن سياسات توسع إنفاقي أدت إلى أزمات، ولم يعد أحد يرغب في تقديم التمويل تحت ضغط الخطر السياسي، وهو في الحالة القبرصية الخروج من الاتحاد الأوروبي في سابقة ستكون الأولى في مسيرة الاتحاد.
الشيء الأهم الذي يجب أن يوضع في الاعتبار هو أن العالم يمر حاليا بأزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ عقود،والتقديرات أنها ليست دورة ركود عادية من التي كانت تحدث كل بضع سنوات ثم تنتهي في عام أو عامين،هذه المرة قد تأخذ الدورة حتى نهاية العقد الحالي مع شح السيولة المتوفرة للتمويل، وتراجع القروض السهلة التي كانت متاحة في فترة الرواج والتوسع، وهذا يعني أن مهمة الاقتصاديات العربية المتعثرة أو التي تحاول الخروج من متاعبها ستكون صعبة في إيجاد التمويل والاستثمارات اللازمة، وإن وجدت ستكون الشروط قاسية وغير شعبية، وتحتاج إلى إرادة سياسية قوية.