مستقبل صناعة الأسمنت في المملكة

25/02/2013 18
د. فهد الحويماني

يُعَدُّ قطاع الأسمنت من أهم القطاعات الصناعية في المملكة نظراً للارتفاع المتواصل في حجم الاستثمارات الموجهة للبنى التحتية الإنشائية بمختلف فئاتها، من طرق وجسور وأنفاق ومشاريع إسكان ومبانٍ حكومية وتجارية، حيث تجاوزت الكمية المنتجة لشركات الأسمنت المدرجة في السوق السعودية في عام 2012، 53 مليون طن، وهي التي كانت أقل من نصف ذلك في عام 2005.

وحسب بعض التوقعات قد تصل الكمية المنتجة لهذا العام إلى 69 مليون طن، وأن الكمية المعروضة للسنوات الأربع المقبلة لن تفي بمتطلبات السوق، على الرغم من وجود 14 شركة رئيسة عاملة، إلى جانب شركة أسمنت الصفوة وشركة أسمنت الرياض وشركة أسمنت الجزيرة. يرى بعض المختصين في الاستثمار في شركات الأسمنت أنه إذا زادت كمية الأسمنت المنتج للنسمة الواحدة في أي دولة عن واحد طن، فلا بد أن يحدث نوع من التصحيح في السوق؛ لأن الإنتاج يزيد على الاستهلاك المتوقع للفرد الواحد، غير أن الكمية المنتجة في السعودية تجاوزت هذا المعدل قبل سنوات عدة، وحالياً يقترب الإنتاج إلى نحو طنين للشخص الواحد. لكن مثل هذه التقديرات ليست دقيقة ولا تأخذ الحالة الاقتصادية للدولة في الاعتبار ولا طبيعة الاستهلاك، حيث نجد - على سبيل المثال - أن مساحة البناء للمنازل في المملكة أكبر بكثير من أغلبية الدول، والأسمنت المادة الرئيسة في البناء، وليس الأخشاب ولا الحديد ولا الحجر. إذاً إلى متى سيستمر ازدياد الإنتاج لمادة الأسمنت؟

الأسمنت مادة عجيبة تم اختراعها قبل نحو 200 عام، وكانت في حينها ثورة صناعية كبرى فتحت آفاقا كبيرة في عالم البناء والتشييد. واكتشف القدماء قبل مئات السنين أن رماد البراكين الناتج عن صهر الصخور واحتراقها مع معادن ومكونات أخرى أنتج مسحوقاً ناعماً يمكن خلطه مع الماء والرمل والحصى فيتصلب ويتماسك بقوة مذهلة. حالياً يتم تصنيع الأسمنت بمصانع كبرى تعمل بالطريقة الرطبة أو الجافة، ويتطلب ذلك الحصول على محاجر تحتوي على كميات مناسبة من الأحجار الجيرية ونوعيات معينة من الطين والطفل والحديد والطباشير والجبس.

وتبدأ عملية التصنيع بتكسير الأحجار الجيرية وخلطها مع الطين ومن ثم إحراقها تحت درجات حرارة عالية، تتجاوز 1000 درجة مئوية وتصل أحياناً إلى 2500 درجة مئوية، حسب طبيعة الأحجار ومكوناتها والمرحلة التي تمر بها عملية التصنيع، فينتج عن ذلك مادة الكلنكر التي تخلط مع الجبس وتسحق لتستخلص منها مادة الأسمنت المعروفة.

أكبر دولة منتجة للأسمنت في العالم، بحسب إحصائيات عام 2011، هي الصين بمقدار 1500 مليون طن (أي نحو 30 ضعف الإنتاج السعودي)، تليها الهند بفارق كبير عند 300 مليون طن، ومن ثم الولايات المتحدة بمقدار 114 مليون طن. وأكبر شركة منتجة للأسمنت في العالم هي الشركة الفرنسية (لافارج)، التي تمتلك 166 مصنعاً حول العالم، وتنتج نحو 225 مليون طن في العام (أكثر من أربعة أضعاف الإنتاج السعودي مجتمعاً)، وتمتلك 25 في المائة من شركة أسمنت الصفوة السعودية التي تستخدم تقنية (لافارج) في مصانعها في جدة.

بعد هذه الدول تأتي من حيث ترتيب الإنتاج كل من تركيا وروسيا وفيتنام وإيران واليابان والبرازيل، وفي المركز العاشر تأتي دولة باكستان بإنتاج يبلغ 65 مليون طن. وأول مصنع للأسمنت في المملكة كان لشركة الأسمنت العربية المحدودة في مدينة جدة، حيث بدأ إنتاجه في عام 1959م بطاقة إنتاجية تساوي 300 طن من مادة الكلنكر. تتميز شركات الأسمنت السعودية بانخفاض تكلفة الإنتاج لديها بسبب الدعم الحكومي في تأمين المحاجر ودعم الوقود وانخفاض تكلفة الأيدي العاملة، لذا فإن هامش الربحية لشركات القطاع يتجاوز 50 في المائة من إجمالي المبيعات.

الحقيقة المؤكدة أن النمو المتواصل في إنتاج الأسمنت غير ممكن أن يستمر مدة طويلة، وتجارب الدول كثيرة في هذا السياق، منها الولايات المتحدة التي انخفضت كمية استهلاك الأسمنت فيها لأكثر من النصف خلال السنوات السبع الماضية، حيث كان الاستهلاك في 2005 نحو 122 مليون طن، وانخفض العام الماضي إلى 66 مليون طن، ما نتج عنه خسارة تجاوزت 1.70 مليار دولار في عام 2011 لشركة (سيميكس) التي تعتبر أكبر شركة منتجة في أمريكا. أما أسهم شركة لافارج الفرنسية فقد انخفض سعرها من نحو 120 دولارا في أول عام 2008 إلى نحو 25 دولارا في آخر عام 2011، وأهم أسباب الانخفاض لهذه الشركة وغيرها من شركات الأسمنت الأوروبية والأمريكية يعود لضعف الطلب نتيجة التغيرات الاقتصادية العالمية.

ماذا على شركات الأسمنت السعودية عمله في حال انخفض الطلب على الأسمنت في السنوات المقبلة؟ أولاً علينا أن ندرك أن طبيعة الاستثمار في شركات الأسمنت تتطلب استثمارات كبيرة بشكل أصول ثابتة، وهي سلاح ذو حدين، تؤدي إلى أرباح عالية عندما تكون الدورة الاقتصادية في عزها، حيث تغطي المبيعات التكاليف الثابتة وتكون الرافعة المالية في صف الشركة. أما في حالة ضعف الطلب، فإن التكاليف الثابتة تضغط على الأرباح بشكل عنيف وتنقلب الرافعة المالية ضد الشركة.

هناك حلول قد تساعد على التخلص من الإنتاج الزائد عن طريق التصدير إلى الدول المجاورة التي في حاجة إلى إعادة البناء عقب الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي تمر بها حالياً، إلا أن مشكلة تصدير الأسمنت أن تكاليفه عالية وكثير من الدول المجاورة، باستثناء قطر، محدودة في قدرتها الشرائية، ما سيجبر الشركات السعودية على القبول بهوامش ربحية أقل بكثير مما تحققه الآن، وقد لا تكون العملية مجدية للمصانع الواقعة بعيداً عن حدود المملكة. كما أن القرارات الحكومية لمنع التصدير تأتي بين الحين والآخر، وتتسبب في عرقلة خطط الشركات، الأمر الذي جعل بعض الشركات تلجأ لطرق تسويقية مبتكرة، مثل ما تم أخيرًا بين أسمنت الشمالية وأسمنت العربية من تبادل لمادة الكلنكر من خلال مصانعهما في الأردن.

لذا على الشركات التحسب للمستقبل بالعمل على تقليص التكاليف وعدم التوسع في بناء المصانع ما لم تكن هناك دراسات دقيقة لمستوى الإنتاج المطلوب من عشر إلى 20 عاماً قادمة. كما أن هناك حاجة إلى البحث عن أفضل الطرق لإنتاج مادة الكلنكر دون استهلاك طاقة حرارية عالية أو استخدام بدائل للطاقة أقل تكلفة من الاعتماد الكلي على البترول. وهناك فرص للتحكم في كمية المواد الخام اللازمة لإنتاج الأسمنت دون الإضرار بجودة المنتج النهائي، حيث يقدر أن إنتاج طن واحد من الأسمنت يستهلك نحو 1.6 طن من المواد الخام؛ لذا قد يكون تردد وزارة البترول والثروة المعدنية في منح تراخيص المحاجر ليس فقط بسبب التخوف من استنزاف خامات الحجر الجيري والآثار السلبية على البيئة بسبب التلوث، بل لربما يكون لطبيعة المنافسة بين الشركات ومستوى الإنتاج دور في ذلك.