عقود مستقبلية على الطقس؟

29/01/2013 5
د. فهد الحويماني

التقدم الكبير في الأسواق المالية من حيث أنواع الأصول والعقود التي يتم تداولها أمر مذهل بالفعل، وهو يأتي نتيجة الطلب المتزايد من المتعاملين لإيجاد الوسائل المناسبة للتحوط من تقلبات الأسعار والمخاطر بشتى أنواعها. ونحن في الدول العربية والإسلامية لا نختلف كثيرًا عن غيرنا في حاجتنا إلى مثل هذه الوسائل، لكن علينا أخذ المناسب منها بما يتفق مع ثوابتنا الشرعية، وألا نتسرع في الحكم على الأشياء قبل دراستها وفحصها وتحليلها للاطمئنان على شرعيتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، حتى تلك الوسائل التي تبدو فيها بعض الشبهات الشرعية، علينا معالجتها و''غسلها'' لتصبح شرعية ومقبولة، فيما لو كنا في حاجة إليها. وهذا بالفعل تم مع عدد من الوسائل مثل التأمين والقروض وتداول الأسهم، وغيرها. الحديث في هذه المقالة عن نوع معين من العقود المستقبلية تختص بحالة الطقس، وهي عقود مالية حقيقية يتم تداولها منذ أكثر من 12 سنة في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية واليابان.

فما هذه العقود وهل نحن في حاجة إليها؟ قد تجد بعض المنشآت التجارية وكبار المتعاملين هنا في المملكة الحاجة إلى تداول هذه العقود خارجيًا، وربما نجد أننا في حاجة إلى إيجاد عقود خاصة بمنطقتنا تتناسب مع طبيعة الطقس هنا.

أسواق العقود المستقبلية أسواق مالية يتم فيها تداول عقود مختلفة لسلع ووسائل مالية عديدة، عُرفت فكرتها منذ القدم، حيث إنها نشأت كوسيلة لتجنب مخاطر ارتفاع أسعار السلع والمواد وانخفاضها. فقد يقوم مُزارع قمح بالاتفاق مع خباز على بيع كمية معينة من القمح في موسم الحصاد بسعر معين يتم تحديده مقدمًا بالاتفاق بين الطرفين، فيستفيد المُزارع بضمان السعر الذي يتم البيع به، ويستفيد الخباز كذلك بضمان السعر الذي يشتري به. وفي فصل الحصاد يقوم المزارع ببيع الكمية المتفق عليها من القمح بالسعر المتفق عليه ويقوم الخباز بتسلم القمح ودفع السعر المتفق عليه. فلو كان سعر القمح في السوق أعلى بكثير من السعر المتفق عليه أو أقل بكثير منه، فإن ذلك لا يعني أيًّا من الطرفين؛ لأن هدف كل منهما التخلص من تقلب الأسعار التي تؤثر في تجارتهما. في هذا المثال، المُزارع والخباز كلاهما متحوطان من تقلب الأسعار، إلا أن كثيرًا من العقود المستقبلية تتم بين متحوطين ومغامرين، والمغامر شخص ينظر إلى العقد نظرة مالية بحتة، يقوم من خلالها بالمخاطرة ببعض المال في سبيل تحقيق عائد مرتفع خلال فترة قصيرة، ووجود هذا المغامر ضروري لخلق سوق قوية ذات سيولة عالية. أما المتحوط فهو المُزارع الذي يريد أن يضمن السعر الذي سيبيع به؛ خوفًا من هبوط الأسعار بشكل قد يوقعه في خسارة كبيرة. تخيل وضع مُزارع ينظر إلى نهاية الموسم بعد ستة أشهر وهو لا يعرف كم ستكون أسعار منتجاته الزراعية في ذلك الوقت، بينما عليه اليوم أن يبدأ بحرث الأرض وتسميدها وبذرها وإدارتها والإشراف عليها.. فهل يلتزم بالزراعة أم يتردد في ذلك؟

في الواقع، إن هذه المشكلة موجودة في المملكة بشكل كبير، وهي ربما أحد أسباب فشل كثير من المشروعات الزراعية، التي تتطلب الالتزام بمبالغ مالية كبيرة مقدمًا ومخاطرة عالية عند تسويق المنتجات. فلو كانت هناك سوق منظمة للعقود المستقبلية على المنتجات الزراعية لتحققت فوائد كبيرة للمزارعين والمستهلكين. وربما لنا عودة إلى هذا الموضوع في مقال لاحق.

وبما أنه لا توجد لدينا عقود السلع المستقبلية الأساسية، فقد يكون من الصعب تخيل الحاجة إلى عقود مستقبلية على الطقس! لاحظ أن المُزارع في مثالنا السابق فقط يحمي نفسه من تقلبات الأسعار، ولا يحمي نفسه من الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل وغيرها من الأحداث الطبيعية وغير الطبيعية، بل عليه في هذه الحالة التوجه نحو شركات التأمين المتخصصة، وهو الأمر غير الممارس هنا في المملكة، حيث الاعتماد على الدور الحكومي والمكرمات الملكية في مثل هذه الطوارئ. أما عقود الطقس، فهي تؤدي دورًا مختلفًا عن كل من عقود السلع المستقبلية، التي تساعد على التحكم بالأسعار، وتختلف عن الكوارث التي قد تشكل خسائر تتجاوز ما تم زرعه خلال الموسم. المشكلة التي يعانيها المُزارع وشركات الكهرباء وبعض الشركات العاملة في المشروعات السياحية والترفيهية، بل حتى مصانع الآيسكريم، هو تغير الأحوال الجوية بشكل أكبر من المتوقع. فالمُزارع، على سبيل المثال، مشكلته أنه قد لا يستطيع الوفاء بعقد تسليم المحصول لمن اشترى العقد؛ لأن درجة الحرارة المرتفعة أضرت بكمية المحصول الذي ينتجه، فعليه في هذه الحالة شراء الكمية المتبقية من السوق، أو دفع الفرق نقدًا. كذلك المشروعات السياحية التي قد تتأثر بدرجات الحرارة المرتفعة بشدة أو المنخفضة بشدة، أو تلك التي تتأثر بسبب العواصف الترابية وتكرارها، فيقل عدد السواح وتتكبد المنشأة خسائر كبيرة.

من عقود الطقس هناك عقود درجات الحرارة التي ترصد درجات الحرارة في أكثر من 50 مدينة حول العالم، بحيث إنه في حالة زادت درجة الحرارة على 18 درجة مئوية، يحصل مشتري العقد على مبلغ محدد من المال، 20 دولارًا مقابل كل درجة إضافية، مضروبًا بعدد العقود. وتؤخذ درجات الحرارة من مراكز معتمدة متخصصة، تسجل في نهاية كل يوم، تتم تسوية العقود بناءً عليها. على سبيل المثال، يمكن لمشروع سياحي في باريس أن يشتري عقودًا على درجة الحرارة في باريس، فيحقق 50 ألف يورو مقابل ارتفاع درجة الحرارة بدرجة واحدة فوق 18 درجة؛ لأنه يعرف أن كل زيادة في درجة الحرارة تعني الانخفاض في عدد الزوار، وفي حالة ارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير يُصَدّ عدد كبير من الزوار عن المشروع، يسترجع صاحب المشروع جزءًا كبيرًا من خسائره، وهكذا.

أرى، والله أعلم، أن علينا النظر في بعض الوسائل الحديثة، خصوصًا تلك التي لها فائدة واضحة للأمة، ومن ثم نقوم بتعديلها وتطويعها وتحويرها بالشكل الذي يحقق الأهداف المرجوة ويستجيب لمقاصد الشريعة السمحة. على سبيل المثال، نعاني هنا في المملكة مواسم العواصف الترابية التي قد تكون أحد أسباب تعثر بعض المشاريع السياحية، فهل نجد يومًا ما عقودا مستقبلية ضد ''العجاج''؟