من الملاحظ أن بعض من بالداخل والخارج من الذين لا يروق لهم الثورة المصرية لا يرغبون في أن تستقر الأوضاع السياسية الجديدة في مصر بشتى الوسائل والطرق حتى وإن أدى ذلك لإسقاط مصر كما صرح أحدهم بذلك , لذا كلما تقدمت مصر خطوة باتجاه الاستقرار واستكمال بناء مؤسسات الدولة تعالت أصواتهم بتخويف المصريين من أثر هذه الخطوات على انخفاض الاحتياطي النقدي بالدولار وتوقف عجلة الإنتاج وتدهور الاقتصاد , وتأكدت هذه الملاحظة بعد إقرار الشعب للدستور حيث تم الانتقال من مرحلة التخويف إلى مرحلة التفزيع بترويج شائعة الإفلاس .
فزاعة إفلاس مصر
بعيداً عن التهوين يجب الإقرار بأن الاقتصاد المصري يمر بتعثر وأزمة نقدية ناشئة عن أسباب خارجية ذات تأثير محدود ناتج عن العلاقة غير المباشرة بالأزمة المالية العالمية منذ عام 2008, وأسباب أخرى داخلية ذات تأثير كبير تتعلق بتراكم الفساد ونهب وتهريب الأموال للخارج , وعدم الاستقرار السياسي , والانفلات الأمني , وكثرة الإضرابات عن العمل .
وبعيداً عن التهويل يجب عدم إنكار قوة الاقتصاد المصري الناتجة عن تنوع مصادر موارده الزراعية والصناعية والمائية والسياحية والتعدينية , وقبل ذلك كله هو اقتصاد غني بثروته البشرية المتمثلة في عقول أبنائه العلماء في مختلف التخصصات , وفي سواعد أبنائه العمال في كافة المجالات , وهو أيضاً اقتصاد لديه القدرة على الانطلاق والتعافي إذا تم وقف الفساد وإدارة موارد الدولة الطبيعية والبشرية بطريقة راشدة .
أما الذين يتحدثون عن إفلاس مصر فلا يعرفون عن الاقتصاد شيئاً , وذلك لأن الإفلاس مرتبط بالديون السيادية التي على الدولة بالعملات الدولية كالدولار , أما الديون التي على الدولة بالعملة المحلية تسمى ديون حكومية وهي لا تؤدي إلى الإفلاس . أي أن الإفلاس يحدث عند وجود ديون سيادية لا تستطيع الدولة سدادها في مواعيدها وليس لديها موارد تمكنها من السداد في المستقبل , وفي هذه الحالة يمكنها اللجوء لنادي باريس الاقتصادي لإعادة جدولة ديونها أو تخفيضها أو إلغائها , والحمد لله الاقتصاد المصري رغم عدم الاستقرار السياسي والأمني لم يفقد قدرته على الوفاء بالمتطلبات الداخلية وأداء الالتزامات الخارجية في مواعيدها .
وحتى يطمئن المصريون على اقتصادهم يجب أن يعلموا أن نسبة الديون السيادية المصرية إلى إجمالي الناتج المحلي تبلغ 15% وهي نسبة آمنة للغاية , وتعتبرمن أقل النسب إذا تم مقارنتها بنسب باقي دول العالم الكبرى حيث النسبة في الولايات المتحدة الأمريكية 103% , وفي بريطانيا 360% , وفي ألمانيا 142% , وفي اليابان 45% , وفي أستراليا 95% , وفي كندا 64% , وفي المغرب 240% , وفي الإمارات 41% , حقيقة الاقتصاد المصري المؤيدة بالأرقام تنطق بأن مصر لم ولن تفلس بإذن الله .
الصكوك الإسلامية
الصكوك هي وحدات استثمارية متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في ملكية مشروع معين , والصكوك في الاقتصاد الإسلامي يقابلها السندات في الاقتصاد التقليدي , وهي وسيلة تمويلية جديدة تتجه نحو تطبيق ما افتقدته البنوك الإسلامية من الشراكة الحقيقية بين عوامل الإنتاج لإحداث التنمية التي يستفيد منها جميع المواطنين , لتتحول البنوك إلى التمويل بالصكوك التي تشترك في الربح والخسارة كبديل عن السندات التي تتعامل بالفائدة المحرمة , وهي عدة أنواع تبعاً لصيغة العقود المتوافقة مع الشريعة الإسلامية المستخدمة في إصدارها مثل : المضاربة والإجارة والمساقاة والاستصناع وغيرها من عقود المعاملات الشرعية .
الفرق بين الصكوك السيادية والصكوك الإسلامية
المفروض ألا يكون هناك فرق بين صكوك الحكومة السيادية والصكوك الإسلامية لتيار الإسلام السياسي , لأن الصكوك في النهاية وسيلة لإقامة المشروعات للنهوض بالاقتصاد وتحقيق التنمية لتوفير الحياة الكريمة للمواطنين , ولكن للأسف الاستقطاب الذي حول الصراع السياسي الذي فيه صواب وخطأ إلى خلاف ديني فيه جنة ونار انتقل إلى الاقتصاد فحول وسيلة إقامة المشروعات التي فيها نجاح وإخفاق في تحقيق الهدف إلى نزاع اقتصادي فيه سيادي وإسلامي , فالحكومة جعلت الصكوك سيادية وتيار الإسلام السياسي جعل الصكوك إسلامية , وكان يكفي تقديم القانون باسم مشروع الصكوك .
من المنطقي والطبيعي أن يحافظ أي مشروع قانون وكذا وسائل تطبيقه على سيادة الدولة وأن يراعي المعايير الشرعية حتى لا يكون مخالفاً للدستور , من هذا المنطلق كان يجب ألا يكون هناك مشكلة حول سيادية أو إسلامية مشروع قانون الصكوك , وأن ينصب النقاش والتباحث بين أهل الاختصاص من الاقتصاديين حول مدى قدرة الصكوك وهي أداة تمويلية صالحة في الأجلين المتوسط والطويل على حل المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد المصري في الأجل القصير كمعالجة الخلل في ميزان المدفوعات , وسد عجز الموازنة , وزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي , والمحافظة على استقرار سعر الجنيه , والتباحث أيضاً بشأن كونها البديل الأمثل القادر على تنفيذ خطة الدولة للتنمية وإقامة المشروعات في الأجلين المتوسط والطويل .
حتى لا يتصور البعض بطريق الخطأ أنني ضد الاقتصاد الإسلامي بصفة عامة أو ضد الصكوك بصفة خاصة أود توضيح أنني أحد المؤمنين بأن الإسلام منهاج كامل لتنظيم حياة الناس عبادة ومعاملة , ومن الموقنين بوجود مذهب اقتصادي إسلامي له فلسفة وأيدلوجية وقواعد ومبادئ تتميز بأبعاد أخلاقية واجتماعية تختلف عن الاقتصاديات الوضعية , وهذه القواعد والمبادئ هي حجر الأساس الذي يستمد منه الاقتصاديون في حدود اجتهادهم البشري وسائل التطبيق المتنوعة لحل المشاكل الاقتصادية , وهذه الوسائل البشرية يجوز نقدها والاختلاف بشأنها دون أن يمثل ذلك قدحاً في الاقتصاد الإسلامي .
رفض الأزهر للصكوك الإسلامية السيادية
الأزهر رفض مشروع الصكوك السيادية الذي تقدمت به وزارة المالية بسبب مخالفته للشريعة الإسلامية , وخطورته على سيادة الدولة , ولديه اعتراض على كلمة سيادية التي تمنع الطعن على مشروع الصكوك , كما أن لديه اعتراض على مدة التأجير لـ 60 سنة لأنها مدة كبيرة تمثل عمر جيل , وقد عبر عن خطورة الصكوك على سيادة الدولة فضيلة الدكتور نصر فريد واصل مفتي الجمهورية الأسبق قائلاً أن المشروع يبيح للأجانب تملك صكوك المصانع والمشروعات المصرية وكأننا نبيع أملاك الدولة للأجانب .
كنت أتمنى أن يقتصر دور الأزهر على بيان الرأي الشرعي المحدد بدقة وبصورة مفصلة لكل صك على حدة ليتم تعديل الصك ليتوافق مع شروط العقد الشرعي الذي انبثق عنه , وألا يدخل الأزهر طرفاً في الجدال بشأن النواحي الاقتصادية والقانونية والسياسية المتعلقة بالصكوك ويترك هذا الجدال لأهل الاختصاص ليحسموه فيما بينهم , ثم يتم عرض ما انتهوا إليه على مجلس النواب لمناقشته وإقراره أو رفضه تبعاً للمصلحة التي لا تتعارض مع الرأي الشرعي وفقاً لقول الإمام إبن القيم رحمه الله : " أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله " .
هل الصكوك الإسلامية بديل لقرض صندوق النقد ؟
للإجابة على هذا السؤال يجب توضيح أن صندوق النقد حينما يقدم لأحد أعضائه قرض يقدمه ليستخدم في علاج الخلل في ميزان المدفوعات , أو لتحقيق استقرار في سعر العملة , وليس للمساعدة في إقامة مشروعات تنموية , وهنا مطلوب الشفافية من الذين يطرحون الصكوك لبيان هل الغرض منها هو سداد عجز الموازنة أم إقامة مشروعات ؟ و في كل الأحوال لا يوجد بديل لقرض صندوق النقد إلا القرض , ولكن القرض الذي أعنيه هو القرض الحسن الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده ليتقربوا به إليه لما فيه من الرفق بالناس , والرحمة بهم , وتيسير أمورهم , وتفريج كربهم .
لقد سبق تقديم مبادرة القرض الحسن وفكرتها بسيطة للغاية ولا تتطلب أي ترتيبات معقدة حيث أنها تعتمد على أن تقوم الحكومة بطباعة نموذج لعقد قرض حسن يتضمن بيانات عن الاسم والرقم القومي والمبلغ الذي يريد المقُرض إقراضه للدولة ونوع العملة وتاريخ استرداد القرض , وأن تقوم الدولة بفتح حساب برقم موحد في جميع البنوك تُحول عليه الأموال , وتتعامل الحكومة مع هذه الأموال معاملة أي قرض تحصل عليه سواء من جهات دولية أو محلية ومن دون تحميل الموازنة بأعباء خدمة الدين , وهذه الأموال يمكن استخدامها في سداد عجز الموازنة , كما يمكن استخدامها في شتى المجالات الاقتصادية بالطريقة التي تُمكن الدولة من التنمية وحل مشاكل المواطنين الوقتية , وهذه المبادرة لن تنقص من أموال المقرضين شيئاً لأنها ستُرد إليهم كاملة في الوقت الذي يحددونه عند الإقراض .
مبادرة القرض الحسن للمصريين في الخارج والداخل من الممكن أن توفر أكثر من 32 مليار دولار , وأكثر من 345 مليار جنيه , وذلك لأن عدد المصريين بالخارج 8 مليون , وعدد المصريين بالداخل 83 مليون وفقاً لأحدث إحصاء للتعداد السكاني , والمُقترح هو أن يُقدم كل مصري بالخارج والداخل من أصحاب الدخول المرتفعة عن طيب خاطر قرض حسن للدولة قدره 10000 دولار للمصريين بالخارج , 50000 جنيه للمصريين بالداخل , تقدير المبلغ المقترح لا يمنع من أن يدفع كل مقرض أكثر أو أقل حسب مقدرته المالية ليتمكن جميع المصريين من المشاركة في حل مشاكل اقتصادهم وتنمية وطنهم .
وبفرض أن 25% من العاملين بالخارج من مرتفعي الدخل وسيقرض كل منهم 10000 دولار , 25% دخلهم فوق المتوسط وسيقرض كل منهم 5000 دولار , 25% من متوسطي الدخل وسيقرض كل منهم 1000 دولار , 25% لا تسمح ظروفهم بالإقراض .
وبفرض أن 5% من المصريين بالداخل من مرتفعي الدخل وسيقرض كل منهم 50000 جنيه , 5% من أصحاب الدخل فوق المتوسط وسيقرض كل منهم 25000 جنيه , 40 % من متوسطي الدخل وسيقرض كل منهم 1000 جنيه , 50% لا تسمح ظروفهم بالإقراض .
إنشاء بنك المشروعات لتنمية مصر
التوكل على الله ثم الاعتماد على الذات بالعمل الجاد سبيل تنمية الأوطان , فالأوطان تبنى بسواعد أبنائها ومواردهم الذاتية , ولا يستطيع رئيس دولة أو حكومة أو حزب مهما كانت قدراتهم من إنجاز أي مشاريع قومية تنموية بدون المشاركة الحقيقية والعون الصادق والفاعل من كافة أبناء الوطن .
القرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة في قصة ذي القرنين كما جاء في قوله تعالى : " قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا " الكهف 94-95 , وفي قصة سيدنا يوسف : " قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ " يوسف 47 , والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب للمدينة وجد أن المسلمين بحاجة إلى المياة العذبة " مشروع قومي " قال : " مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلاءِ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَرَاهَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رواه البخاري , وكذلك حث الصحابة رضوان الله عليهم على تجهيز جيش العسرة دون أن يفرض عليهم ضرائب .
كما أن الواقع في العصر الحديث يؤكد هذه الحقيقة فأمريكا بعد الحرب الأهلية بنيت بسواعد أبنائها , وكذلك ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية , وهذه الحقيقة تأكدت في مصر ذاتها من خلال طلعت حرب باشا رائد الاقتصاد المصري في العصر الحديث الذي أسس بنك مصر الذي ساهم في إنشاء الشركات التي تحمل اسم مصر مثل شركة مصر للغزل والنسيج , ومصر للطيران , ومصر للسياحة , ومصر للنقل البري , ومطبعة مصر , واستديو مصر , وشركة بيع المصنوعات المصرية وغيرها من الشركات التي ساهمت في نهضة مصر اقتصادياً .
في تصوري أن طلعت حرب نجح لأنه كان لديه رؤية وتوجه اقتصادي واضح ومعلن للجميع , ففي خطبة افتتاح البنك حدد هدفه بصراحة قائلاً : " إن بنك مصر ليس بنكاً تجارياً بالمعنى المعروف الذي يعتبر أصحاب الأموال مودعين يحصلون على فائدة , ولكنه بنك مهمته الأساسية تنمية البلد بإقامة المشاريع الصناعية وتشجيع الزراعة والتجارة " .
لقد صنع طلعت حرب نهضة اقتصادية ببنك رأسماله 80000 جنيه مقسمة على 20000 سهم قيمة السهم 4 جنيهات أكتتب فيها 126 شخصية مصرية وطنية , فما بالنا نعاني المشاكل الاقتصادية ولدينا عشرات البنوك مكدسة بـ 1,2 تريليون جنيه , ومليارات الدولارات لدرجة أن رئيس اتحاد بنوك مصر ورئيس مجلس إدارة البنك الأهلي قال إن مصر فيها دولارات تكفي قارة أفريقيا كلها , وبنوكنا الأكثر ربحاً وامتلاكاً للسيولة في العالم !.
مطلوب من الرئيس والحكومة ومحافظ البنك المركزي والأحزاب تبني فكر طلعت حرب وإنشاء بنك للمشروعات برأسمال 500 مليار جنيه مقسمة إلى أسهم بقيمة أسمية 10 جنيهات للسهم , ليكتتب فيه أكبر عدد من المصريين ليصبح المواطن مساهماً يحصل على الربح الناتج عن الاستثمار الحقيقي وليس مودعاً يحصل على الفائدة الناتجة عن الإقراض , وتكون مهمة البنك الأساسية إقامة شركات استثمارية تنفذ المشروعات القومية وفقاً لخطة الدولة للتنمية , وكذلك البدء الفوري في تصحيح مسار البنوك القائمة وذلك بإلغاء الفائدة على الودائع فتذهب الأموال المكدسة في البنوك إلى عروق الاقتصاد لتشجع الاستثمار والإنتاج .