علاقة تضخم الأسعار بالبطالة

03/12/2012 12
د. فهد الحويماني

يعتقد أن هناك علاقة قوية بين مستوى التضخم ونسبة البطالة، حيث الارتفاع في مستوى التضخم يكون مصحوباً بانخفاض في مستوى البطالة، والعكس صحيح. وأول من أشار إلى هذه الظاهرة هو الاقتصادي النيوزيلندي ويليم فيليبس في عام 1958، حين لاحظ هذه العلاقة في الاقتصاد البريطاني على مدى 100 عام. وعلى الرغم من بساطة الاستنتاج، إلا أن هذا الموضوع أصبح من أهم الأدوات المستخدمة في النظرية الكينزية،نسبة إلى الاقتصادي الشهير جون مينارد كينز، وحصل فيما بعد سبعة أشخاص على جائزة نوبل في الاقتصاد لأعمالهم المتعلقة بمنحنى فيليبس، بين مؤيد ومعارض. فما علاقة الاقتصاد السعودي بمنحنى فيليبس؟ وهل العلاقة المفترضة بين مستوى التضخم والبطالة موجودة في الاقتصاد السعودي؟

أهمية استنتاج فيليبس بشأن العلاقة بين التضخم والبطالة تكمن في كونها تعطي متخذ القرار الاقتصادي حلاً بسيطاً لمعالجة البطالة، أي رفع مستوى التوظيف، من خلال رفع مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد على حساب ارتفاع مستوى التضخم، فتنخفض البطالة ويزداد التضخم. كما أن دولاً كثيرة مما تعاني ارتفاع نسبة التضخم تستخدم منحنى فيليبس في خفض التضخم على حساب رفع مستوى البطالة، حيث يتم ذلك بخفض الصرف الحكومي وتقليص الطلب الكلي فترتفع البطالة وتنخفض الأسعار.

ورغم شهرة مفهوم منحنى فيليبس واستخدامه من قبل الكثيرين، إلا أن ما حدث في بعض الفترات الزمنية في السبعينيات والثمانينيات الميلادية في أمريكا وبعض الدول الأوروبية أثار عديدا من التساؤلات حول صحة هذا المفهوم، حيث برزت ظاهرة التضخم المصحوب بالركود الاقتصادي، ما يسمى (ستاقفليشن). هنا اختلفت العلاقة بين التضخم والبطالة، فأصبح هناك تضخم مع ركود اقتصادي وبطالة مرتفعة، بينما المتوقع أن التضخم يقلص من مستوى البطالة. كما أن بريطانيا شهدت حالة عكسية لسنوات عديدة في التسعينيات، حيث كان هناك انخفاض في مستوى البطالة وانخفاض في مستوى التضخم في الوقت نفسه. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال العرف الاقتصادي القائم هو أن منحنى فيليبس موجود وصحيح، لكن على المدى القصير فقط، وهو ما نادى به ملتون فريدمان، الأب الروحي للنظرية النقودية، المعارض لنظرية كينز، الذي لا يرى فائدة في توظيف السياسة المالية لرفع الطلب الكلي، لأن تأثير ذلك في البطالة غير مجدٍ على المدى الطويل، حتى إن أعطى نتائج إيجابية على المدى القصير.

إن أردنا معرفة صحة هذه المفاهيم في الاقتصاد السعودي، فيمكننا دراسة علاقة مستوى التضخم في المملكة بمستوى البطالة على مدى سنين طويلة. وبالاعتماد على ما هو متوافر من بيانات وعلى فرض أنها بيانات صحيحة وتعبر عن الواقع الاقتصادي، فسنجد أن منحنى فيليبس كان ينطبق إلى حد كبير في سنوات عديدة، حيث كان التضخم تحت السيطرة، لكن على حساب ارتفاع مستوى البطالة، وهو ما يتنبأ به منحنى فيليبس. إلا أنه في السنوات الأخيرة، خصوصاً منذ عام 2008، بدأنا نشاهد ارتفاعا في مستوى التضخم مع ارتفاع في مستوى البطالة! وهذا يطرح تساؤلات عديدة عن سبب ذلك. لا نعلم تفسيرات مؤكدة لها، إلا أن طبيعة الاقتصاد السعودي المختلفة عن كثير من اقتصادات العالم، قد يعطي بعض الأجوبة. أولها أن أبرز مسببات التضخم في المملكة خارجية المصدر بحكم أن الاقتصاد السعودي يعتمد على الاستيراد في معظم السلع والخدمات التي ارتفعت في السنوات الأخيرة لأسباب دولية، بينما مستوى البطالة شأن داخلي غير مرتبط بشكل مباشر بعناصر الإنتاج المسببة للتضخم، كما هو الحال في الدول الكبرى. هذا يعني أن متخذ القرار في المملكة يواجه صعوبة أكبر من نظيره في الدول الكبرى في مكافحة البطالة، حيث لا يستطيع تحديد نسبة التضخم اللازمة لخفض البطالة، فتكون هناك مخاطرة كبيرة عند قيامه بذلك بشكل قد لا يجعله قادرا على ضبط مستوى التضخم. على سبيل المثال، بعض القرارات الأخيرة الموجهة لمحاربة البطالة، رغم أهميتها وحاجة البلاد إليها، إلا أنها قد تخرج التضخم عن طوره، وبالتالي قد تخلق مشكلات أكبر من حل البطالة ذاتها. هناك ما يعرف بمؤشر البؤس وهو، في أبسط صوره، عبارة عن جمع نسبة التضخم ونسبة البطالة للحصول على عدد يعبر عن مدى البؤس أو الشقاء في البلاد. على سبيل المثال، كان مؤشر البؤس في سنوات عديدة في أمريكا دون 7 في المائة، ثم ارتفع إلى فوق 10 في المائة في عهد الرئيس نيكسون، ونحو 16 في المائة في عهدي فورد وكارتر، ثم عاد إلى نحو 7 في المائة في عهد كلينتون، والآن هو نحو 11 في المائة. ويرتفع هذا المؤشر بحدة عندما ترتفع نسبتا البطالة والتضخم معاً، إلا أنه عندما يصدق منحنى فيليبس فإن ارتفاع التضخم يصحبه انخفاض في مستوى البطالة،والعكس صحيح، ما يحد من ارتفاع هذا المؤشر.

ومن الأسباب الأخرى التي قد تفسر عدم انطباق منحنى فيليبس في السنوات الأخيرة، طبيعة البطالة في المملكة. في كثير من الدول نجد أن أبرز مسببات البطالة تعود إلى الدورة الاقتصادية، حيث ترتفع البطالة في فترات الركود الاقتصادي وتنحسر في فترات الازدهار، بينما البطالة في المملكة لا تتأثر كثيراً بالدورة الاقتصادية لكونها بطالة هيكلية، سببها نقص المهارة اللازمة لبعض الأعمال ووجود العمالة الأجنبية البديلة التي تؤدي العمل المطلوب بأقل سعر وغالباً بكفاءة أعلى. وحسب المفهوم العالمي لا توجد بطالة في المملكة لأن الوظائف متوافرة وأحياناً بشكل أكبر من الأيدي العاملة المتوافرة، ولكن بالطبع البطالة كبيرة بين المواطنين من الجنسين. وهناك أسباب أخرى لا مجال للتطرق لها هنا، لكن من المؤكد أن تحليل الاقتصاد السعودي يجب أن يراعي طبيعة الاقتصاد السعودي المختلفة عن دول كثيرة حول العالم.

أخيراً، رغم أنني أعتقد أن معالجة البطالة في المملكة يجب أن تكون في أعلى أولويات متخذ القرار، خصوصاً الجانب النسائي الذي يعاني بشكل أكبر بكثير من الرجال، ورغم أنني أرى أن علينا جميعاً أن نقبل بأن لا حل للبطالة دون تقبل الارتفاع الحتمي للتضخم، على الأقل على المدى القصير - كما يتفق عليه النقوديون والكينزيون كلاهما - إلا أنني أتمنى أن يكون هناك تنسيق بين الأطراف المعنية من متخذي القرار، فنتفادى قيام طرف بمحاربة التضخم من جهة وآخر بمحاربة البطالة من جهة أخرى، مع أن الانتصار على أي من هاتين الآفتين يكون على حساب الأخرى، وتتفاقم المشكلة في غياب التنسيق الزمني والكمي والنوعي بين هذه الأطراف.