من مسلمات الاقتصاد الكلي أن الدولة التي تتبنى سعر صرف ثابتا أمام عملة دولة أخرى، تفقد التحكم في العرض النقدي لعملتها، وبالتالي التحكم في مستوى سعر الفائدة المحلية، إلا إذا كانت لديها قيود على تحركات رؤوس الأموال منها وإليها. يتبقى إذاً لدى البنك المركزي سلاح وحيد ألا وهو التحكم في سعر الصرف، الذي يجب أن يبقى ثابتاً لا يتغير لبث المصداقية والموثوقية في سلامة سياسة البنك المركزي، وبالتالي استقرار الأسعار وجذب الاستثمارات الخارجية. وضريبة الارتباط الثابت بعملة أخرى أن أسعار الفائدة المحلية يجب أن تكون مطابقة إلى حد كبير لأسعار الدولة الأخرى، الأمر الذي لا بأس به إن كان الوضع الاقتصادي متشابها في كلتا الدولتين، وكلاهما يمران بالدورة الاقتصادية نفسها. فلو كان هناك تباطؤ في الدولة الكبرى وانتهج بنكها المركزي سياسة نقدية توسعية، فإن الدولة ذات السياسة النقدية التابعة لا بد أن تقبل بالسياسة نفسها وتتحمل تبعاتها. وعلى الرغم من أنه يقال إن السياسة النقدية المستقلة لا توجد حالياً حتى في الدول ذات العملة المعومة، بسبب ترابط الاقتصادات العالمية واندماجها، إلا أن قدرة البنك المركزي ذي العملة المثبتة محدودة بشكل كبير. فإلى أي مدى تستطيع السياسة النقدية التي تشرف عليها مؤسسة النقد العربي السعودي أن تعمل بمعزل عن نظيرتها الأمريكية؟ وهل نجحت في ذلك؟
يحسب لمؤسسة النقد قدرتها الفائقة على الحفاظ على سعر صرف ثابت منذ أكثر من 25 عاماً على الرغم من التقلبات الحادة في الاقتصاد الدولي، خصوصاً تقلب أسعار البترول وموجات التضخم الذي شهدناه طوال هذه السنين. فنجد أن مؤسسة النقد تمارس عملها في الحفاظ على سعر الصرف الثابت بسهولة تامة، حيث لا تجد نفسها مضطرة للتدخل في سوق الصرف الأجنبي، إلا في فترات قليلة ونادرة للدفاع عن سعر الصرف متى كان هناك هجوم على الريال السعودي، كما حدث في عامي 1993 و1998، حيث كان لزاماً عليها التدخل في سوق العملات المستقبلية وشراء وبيع العقود الآجلة على الريال والحد من التقلبات في معدلات عقود المبادلة على الريال. ففي معظم الحالات تكتفي المؤسسة بإحداث فارق كبير نسبياً بين أسعار الفائدة السعودية وأسعار الفائدة الأمريكية بالشكل الذي يحدّ من محاولات خفض سعر الصرف، وذلك من خلال تحقيق عامل جذب للودائع بالريال السعودي، ورفع تكلفة الاقتراض بالريال للحد من تحويل الريال إلى دولار. وإن لم يكن ذلك كافياً، عندها فستضطر المؤسسة إلى التدخل المباشر في سوق الصرف.
لكن يعاب على المؤسسة عدم دعمها سوق أوراق الدين المحلية من خلال إيجاد سوق ثانوية نشط يساعدها على التحكم في السيولة النقدية، حيث نجد أن النشاط الوحيد المتاح هو بين المؤسسة والمصارف السعودية في تداول سندات التنمية الحكومية وأذونات الخزانة، وذلك يساعد نسبياً على مقدرة المؤسسة على التحكم في السيولة، إلا أنه ليس فاعلا بشكل كبير ويتسبب في بطء بلوغ سعر الفائدة الذي تقره المؤسسة إلى السوق. أي أن المؤسسة قد تقرر سعر الفائدة المراد أن يسود في البلاد من خلال تحديد السعر الرسمي لاتفاقيات إعادة الشراء (وإعادة الشراء العكسي)، لكن نجد أن المصارف لا تتفاعل مباشرة مع هذا التوجه، بخلاف ما نراه في الولايات المتحدة. هنا أشير إلى أن المؤسسة حالياً خفضت من السعر الرسمي لاتفاقيات إعادة الشراء إلى 2 في المائة، بينما هو في الولايات المتحدة مستهدف بين صفر وربع نقطة مئوية. هذا يعني أن المؤسسة لا ترغب في التماشي مع سعر الفائدة الأمريكية، وهو سلاح ضعيف في يدها، إلا أنها تصر على هذا السعر. وعملياً، المصارف لا تقترض من المؤسسة بهذا السعر، حيث إن سعر اتفاقيات إعادة الشراء يحدده سعر الفائدة الفعلي، وليس قرار مؤسسة النقد. أي أن المصارف تقترض حالياً بسعر أقل من 2 في المائة بكثير، تماشياً مع سعر الفائدة الأمريكية. هذا يعني أن المؤسسة تحاول أن تستقل بسياستها النقدية من خلال إعلان سعر معين لاتفاقيات إعادة الشراء، إلا أنها لا تستطيع تحقيق ذلك على أرض الواقع.
وكي نكون منصفين، فإن مؤسسة النقد في وضع لا تحسد عليه، فهي يتوافر لديها بشكل يومي كميات كبيرة من النقد الأجنبي كإيرادات بترول وتدفقات مالية من الاستثمارات الأجنبية، وتجد إشكالية كبيرة في ضخها في القطاع المصرفي الغارق في السيولة حالياً، فتضطر إلى استثمارها خارجياً منعاً لارتفاع مستوى السيولة النقدية بشكل لا يساعد المؤسسة على تحقيق هدفها المعلن بتحديد سعر الفائدة عند 2 في المائة. هذا التحفظ من قبل المؤسسة له دور في ارتفاع معدل الاقتراض بين المصارف السعودية، الذي قارب 1 في المائة أخيرا، مرتفعاً بشكل سريع خلال هذا العام، على الرغم من بقاء سعر الفائدة الأمريكية كما هو، وعلى الرغم من تأكيدات مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالمحافظة على هذا السعر المتدني حتى عام 2014. فما الذي يجعل سعر الفائدة بين المصارف السعودية يرتفع على الرغم من ارتفاع مستوى السيولة لديها وتقوم بإيداع الفائض منها لدى المؤسسة دون مقابل؟ مرة أخرى، يعود السبب إلى محاولة مؤسسة النقد الانفراد في قراراتها بمعزل عن السياسة النقدية الأمريكية، الذي نعرف تماماً أنه غير ممكن إلا على المدى القصير. وقد يكون لدى المؤسسة تخوف من استمرار سعر الفائدة المتدني في ظل الإقبال على تطبيق الرهن العقاري، الذي قد يكلف المصارف كثيراً فيما لو تم تفعيله في مثل هذه الظروف، حيث إن المشكلة أن المصارف ستقدم قروضا لسنوات قد تمتد إلى 30 عاماً استناداً إلى أسعار فائدة تقبع حالياً عند مستويات متدنية تاريخياً، ومن غير المتوقع بقاؤها بهذا الشكل بعد خمس أو عشر سنوات. لذا من المرجح ألا تتحمس المصارف لتطبيق الرهن العقاري في الوقت الحاضر، وتفضل الانتظار حتى ترتفع أسعار الفائدة الأمريكية. كما لا ننسى تخوف المؤسسة من فقاعة جديدة في أسعار الأسهم، فيما لو أرخت قيودها عن السيولة النقدية.
ختاماً، كان هذا مجرد عرض سريع للسياسة النقدية المتاحة لمؤسسة النقد، التي رغم أنها مقصوصة الأجنحة إلا أنها تحاول التغلب على الجوانب السلبية لارتباط العملة السعودية بالأمريكية من خلال بعض الوسائل غير الفاعلة، فتضطر المؤسسة إلى اتخاذ قرارات تنظيمية للمساعدة على حل المشكلة، مثل إبقاء سعر الفائدة على اتفاقيات الشراء أعلى مما يجب أن يكون عليه، وربما تحث المصارف على عدم التوسع في الإقراض، والاعتماد بشكل جزئي على السياسة المالية من خلال وزارة المالية في الحد من السيولة النقدية.
سعادة الدكتور / فهد .... شكرا على هذا المقال الشيق والممتع وان كان لى طلب فهو ان تكتب مقال اخر عن الجزء الثانى وهو استقلالية السياسة المالية لان جناحا الموضوع هما السياسة النقدية والسياسة المالية ... خاصة انكم ذكرتم فى ثنايا المقال تاثير السياسة النقدية فى الاجل الطويل ( 10 سنوات ) وهنا فى الغالب يكون تأثير السياسات المالية اكبر من تأثير الساسات النقدية كما هو معروف .....!! اكرر شكرى وتقبل خالص تحياتى د . جمال شحات
تحية د. جمال، نعم السياسة المالية في المملكة أهم من السياسة النقدية، وهي تختص بمقدار المصروفات الحكومية والإعانات والرواتب وغيرها، وهذه ممكن تؤثر بشكل كبير على مستوى السيولة... وعسى يكون هناك مجال للكتابة عن ذلك.