نادى صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الصباح منذ أن تولى سدة الحكم في العام 2006 ، بأن من أهداف الدولة الاستراتيجية تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري ، ولا شك بإن هذا النداء لم يأت من فراغ ، فقد كانت الكويت كذلك قبل النفط ، حيث استقطبت الهجرات السكانية من الجزيرة العربية والأقاليم المجاورة لطرق أبواب الرزق ، حيث كانت مقصداً لذلك لما تتمتع به من موقع جغرافي وبنية تحتية مناسبة في ذلك الزمان ، ناهيك عن توفر عنصر الأمان والإطمئنان في ربوع الكويت ، وذلك بالمقارنة مع حالة عدم الاستقرار السائدة في المناطق المجاورة لها .
مراحل الانحدار
وقد استمرت الكويت مركزاً مالياً وتجارياً إقليمياً منذ ذلك العهد حتى منتصف السبعينات من القرن الماضي ، وذلك عندما بدأت ملامح التراجع والتأخر تبدو في معظم - أن لم نقل في جميع - مظاهر الحياة والنشاط في البلد ، ومنها ما يتعلق بالشق الاقتصادي ، وذلك رغم استمرار مظاهر التقدم السطحية والمرئية مثل استمرار العمل في البنية التحتية والفوقية ، ولو بشكل متباطئ عن ذي قبل ، ناهيك عن ضعف الجودة والدقة في العمل والانجاز ، والذي لا يراه إلا المتخصصون المهنيون كل في مجاله ، بالإضافة إلى شريحة المواطنين الواعين أصحاب الرؤى البعيدة والثاقبة ، سواء كانوا من جيل المثقفين والمتعلمين وقتها ، أو كانوا من أصحاب البصيرة من الأجيال السابقة ، حتى ممن فاتهم قطار التعليم النظامي .
وقد بدأ الانحدار الملحوظ في حقبة الثمانينات من القرن الماضي ، عندما انكشفت مظاهر التخلف الكامنة منذ منتصف السبعينات ، وبالإضافة إلى شبه التوقف في تنفيذ المشاريع التنموية ، مثل تحسين قطاع الصحة والتعليم ، فقد بدء التراجع والتخلف يصيب أهم ثروة وعنصر في هذا الوطن ، وهو الإنسان الكويتي ، حيث ظهرت ملامح الاتكالية وطغيان الرفاهية وعدم الجدية وانعدام المبالاة ، والأخذ دون العطاء ، والقبض دون مقابل ، وغيرها من مظاهر الفساد المتعلقة بالسلوك البشري ، وهي الآفة الكبرى التي استفحلت ، والتي هي من المسببات الرئيسية -ولو أنها غير المباشرة -في غزو الكويت في 2/8/1990 .
وبعد أن من الله علينا وبلدنا بالتحرير في 26/2/1991 ، كان من البديهي إعادة بناء الدولة لتلافي كارثة عامة أخرى ليست بالضرورة أن تكون على شكل " غزو " ، حيث أن أشكال وأنواع الكوارث العامة متعددة ومتنوعة ، ولا شك بإن توقعنا أو أمنيتنا في إعادة بناء الدولة بشكل سليم لم تتحقق ، فقد انتشرت مظاهر الفساد واستفحلت بشكل مستمر بل ومتصاعد ، وقد أطلق سمو أميرالبلاد عدة صيحات ونداءات وفي عدة مناسبات تعبيراً عن ذلك الوضع الخطير ، ومنها : " أن الحسد في الكويت يكفي لأهل الصين وزيادة " وكذلك " أن فساد البلدية لا تتحمله البعارين " وأيضاً " أعينوني " ... إلخ .
بعد أن استطردنا بعض الشيئ بما يتعلق بالمراحل التي مرت على الكويت مما أفقدها المركز الريادي في المنطقة ، لا بد لنا أن نرجع إلى عنوان الموضوع وهو " الكويت مركز مالي ... بين الواقع والخيال " ، ولا شك بان إطلاق هذا الشعار أو العنوان من رأس الدولة مهم للغاية ، وذلك لتحديد الهدف المطلوب ، ومن ثم سلوك الطريق السليم للوصول إليه ، حيث أن تحديد الهدف يحدد هوية البلد بإن تكون مركزاً مالياً واقتصادياً ، حيث تتنوع استراتيجيات الدول ، فبعضها ينشد الريادة في السياحة وبعضها الآخر في الصناعة ، وغيرها إعادة التصدير... إلخ .
هل نحن متأخرين ؟
ويتبادر إلى الأذهان عند إطلاق شعار تحويل الكويت إلى مركز اقتصادي ، يتبادر أن هناك دولا في المنطقة سبقتنا خاصة الإمارات وقطر ، وبالتالي ، لا يتسع المجال لمزيد من المراكز الاقتصادية الجديدة في نفس المنطقة ، من ناحية أخرى ، فإن إنشاء أكثر من مركز اقتصادي في الخليج مناف للتكامل والتخصص ما بين دول مجلس التعاون الخليجي ، ولا يتفق مع متطلبات استخدام وتوظيف الميزة النسبية التي تتمتع بها كل دولة على حدة لتحقيق استراتيجية التكامل .
لا شك بان تلك الأسئلة لها ما يبررها ، لكننا نعتقد أن المركز المالي والاقتصادي عنوان كبير من الممكن بلورته في تخصص معين مع مرور الوقت والبحث والتمحيص ، فقد يتم تطويره ليصبح مركزاً خدمياً أو مالياً اسلامياً أو للنقل والإمداد والتموين " لوجستياً " ، وغيرها من المسميات والتخصصات الممكن تطويرها على الأرض ، وبالتالي ، الإبداع في تنفيذها بشكل فريد ومتميز ، أما الإجابة عن السؤال المهم " هل نحن متأخرين ؟ " ، الإجابة : نعم بكل تأكيد ، لكن هذا لا يمنع من النهوض ونبذ الاحباط ، حيث أن الوصول متأخراً أفضل من عدم الوصول نهائياً ، أضف إلى ذلك ، إن كنا متأخرين ، ونحن فعلاً كذلك ، فإننا متأخرين 20 أو 30 سنة على أبعد تقدير ، وهذه مدة قصيرة من وجهة نظرنا في حياة الأمم وفي سجل التاريخ ، لكن التأخر أكثر من ذلك أمر غير مقبول إطلاقاً بكل تأكيد ، حيث أن المزيد من التأخر سيتحول إلى سقوط وانهيار في نهاية المطاف ، وهذا ما لا نريده ولا نتمناه بلا ريب .
حتى يتحول الحلم إلى واقع
لا شك بأن تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري هو في مرحلة الأمنيات والأحلام في الوقت الراهن ، وحتى نكون دقيقيين أكثر ، فإنه خارج منطقة التوقعات ، لأن التوقعات يجب أن يتم بناؤها على واقع حالي ، وهذا أمر مفقود بكل تأكيد . العنصر الحاسم والقاصم !
نعتقد بأن تحويل الكويت إلى ما يطمح له سمو الأمير ونطمح إليه جميعنا ليس بالمستحيل ، لكن تحويل الطموح إلى واقع يتطلب توفر عنصر حاسم وهو العامل البشري ، حيث إن إعداد وإصلاح العنصر البشري الكويتي وهو رأس الأمر ، وذلك من خلال تشجيع الجادين وتقويم المتقاعسين ومعاقبة المخطئين ، نظراً لكون العنصر البشري هو اللبنة الأولى والكبرى في أي بناء كان ، سواء كان مركزاً مالياً أو خلافه ، وهو العنصر القاصم أيضاً ، حيث تتبخر الآمال والطموحات في غيابه ، وعند توفر ذلك العنصر الحاسم والقاصم على الوجه المطلوب تكون له عدة أولويات منها :
1-إعادة بناء أركان الدولة ومؤسسات الحكم والقرار بعيداً عن المحاصصة والمجاملة وأنصاف الحلول ، والذي يتطلب عدة أمور ، منها ، توفير الكفاءات المناسبة لإدارة تلك الأركان والمؤسسات .
2-تطوير التشريعات الاقتصادية : مثل القانون التجاري وقانون الشركات وقانون البناء والتشغيل والتسليم ( BOT ) ومشتقاته الأخرى مثل مشاركة القطاعين العام والخاص (PPP ) ، علماً بأن معظم إن لم نقل جميع التشريعات الأخرى غير الاقتصادية تحتاج إلى إعادة نظر وتطوير وإحلال .
3-استحداث مؤسسات ترعى المركز المالي : مثل هيئة سوق المال وهيئة تشجيع الاستثمار وغيرها من المؤسسات التي تعتبر البنية التحتية التنظيمية لأي مركز مالي وتجاري .
4-تطوير واستكمال البنية التحتية : مثل توسيع المطار وطاقة الموانئ وشبكة الطرق ومحطات توليد الطاقة وتحلية المياه والمصافي النفطية ، وغيرها الكثير ، ومنها تطوير خدمات البريد وشبكات الاتصالات .
5-توطيد الشراكات الاستراتيجية مع الدول : والذي يتطلب جهداً دوبلوماسياً مكثفاً ومركزاً مع الدول المحيطة لتبادل المنافع والمصالح على أسس واضحة واستراتيجية ، بعيداً عن المجاملات والعواطف .
6-الاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المضمار : والانطلاق من النقطة التي وصلوا إليها ، سواء كان هذا الآخر دول أو مؤسسات أو حتى أفراد .
الجبهة الداخلية أولاً
حتى تكون الكويت مركزاً مالياً وتجارياً أقليمياً أو عالمياً ، لا بد أن تكون مركزاً محلياً أولاً ، أي أن تكون الدولة جاذبة ومحتضنة لاهتمام ومصالح مواطنيها الاقتصادية أولاً ، وذلك حتى يكون أصحاب الأعمال الكويتيين سفراء اقتصاديين لبلادهم كمرحلة تالية ، وهذا الأمر مفقود حالياً بكل تأكيد ، بل نستطيع أن نقول الوضع مقلوب تماماً ، أي أن أصحاب الأعمال قد " طفشوا " من البلد ، وراحوا يشكون الحال ويعبرّون عن أسفهم وآلامهم للأجانب ، وذلك من البيئة الأقتصادية الطاردة ، أي أن هؤلاء أصبحوا – دون قصد – ماكينة دعائية مضادة لجذب اهتمام الأجانب إلى البلاد ، وبالتالي نسف فكرة المركز المالي ، أضف إلى ذلك ، أن وضعنا الاقتصادي الداخلي غير المشجع مكشوف على الملأ من خلال وسائل الإعلام المختلفة .
وحتى لا نقفز في الهواء ، يجب أن تكون الأولوية لتحطيم الماكينة الدعائية المضادة ، من خلال إصلاح وإعادة بناء الجبهة الداخلية من الجانب الاقتصادي ، وذلك بكسب ولاء أصحاب الأعمال من المواطنين أولاً ، عن طريق تغييرات جذرية وجوهرية ، تمهيداً لتحويل تلك الماكينة التي تدور حالياً بالمقلوب للدوران بالشكل الصحيح ، لجذب الاهتمام الخارجي للكويت كمركز مالي وتجاري ، ولا شك بإنه لا يخفى على أحد أن الكويت مصدّر رئيسي لرأس المال للظروف الحالية غير المواتية ، وربما تستمر كذلك ، وهذا مؤشر غير سلبي من جميع الجوانب بكل تأكيد ، لكن ما نطمح إليه أن يتم خلق فرص استثمارية كبيرة ومجزية محلياً للتخفيف من تسارع وتيرة تحويل الأموال الوطنية إلى الخارج ، بحيث ينتج عن استغلال تلك الفرص قيمة مضافة للاقتصاد الوطني ، والتي يجب بدورها أن توفر فرصاً كثيرة ومتزايدة للأيدي العاملة الوطنية لمخرجات التعليم ، والتي تذهب سدى حالياً من خلال توظيف معظمها الساحق في مؤسسات حكومية لا تحتاجها ، مما يعتبر هدراً للطاقات وخسارة للاستثمار في التعليم ، وتكريساً للبطالة المقنعة وضعف الانتاج إن لم نقل انعدامه .
الأرقام والاحباطات
وبالرغم من كوننا اقتصاديين ونستخدم – إن لم نقل نعشق – لغة الأرقام ، فإننا لا نرى أهمية بالغة لسرد الأرقام والنسب والمؤشرات في هذا المقام ، حيث ينحصر الغرض هنا في تشخيص الوضع القائم وتوصيف الحلول الممكنة للخروج برؤية واضحة لتحديات تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري ، ومن ثم ، محاولة اقتراح أفضل السبل وأدوات مواجهة تلك التحديات ، من جهة أخرى ، لا نعتقد أنه من المفيد جداً في هذا المقام أيضاً سرد نماذج من الاحباطات والاخفاقات المتوالية منذ طرح هدف تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري حتى الآن ، حيث نرى أن الممارسات السلبية المضادة لهذا الهدف متعددة ومتنوعة ومعروفة أيضاً ، ولا تحتاج إلى جهد يذكر للبحث عنها ..
وفي الختام ، نعم نحن متأخرين في تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري ، لكن هناك فرصة الآن للمبادرة وشحذ الهمم لتدارك ما تبقى من الوقت القليل للسير في الاتجاه السليم ، وكما أسلفنا ، فإن حجر الزاوية للنجاح في هذا المجال وجميع المجالات هو الإنسان الكويتي ، والذي يجب أن يقبل التحدي ويجد ويجتهد ويخلص ويصبر لتحقيق ما يسمو إليه ، حيث أن النجاح يحتاج فعل وعمل وليس قول وأمل .
إعداد : ناصر سليمان النفيسي المدير العام لمركز الجُمان للاستشارات الاقتصادية