في مقال سابق (بعنوان: التنويع ثم التنويع ثم التنويع، والمنشور في 28/06/2009م) تطرقت إلى أهمية التنويع في عالم الاستثمار، وأن التنويع ينبغي أن يكون في أوراق مالية مختلفة وفي أسواق متعددة وفي فئات استثمارية مختلفة (كالأسهم والعقار والصكوك والسلع والمعادن والمرابحات)، وذلك عملاً بالمثل: «لا تضع بيضك كلّه في سلة واحدة».
وقد أبدى بعض القراء ملاحظات واستفسارات عن مقالي السابق والتوصيات الواردة فيه، مستشهدين بمثل مقابل لـ (آندرو كارنجي) يقول فيه «ضع كل بيضك في سلة واحدة واحرس السلّة جيّداً», حيث يرون أن «التركيز هو الذي يكون الثروة، أما التنويع فهو الذي يحافظ عليها»، ويسوقون في ذلك كثيرا من القصص عن أشخاص ركزوا أموالهم في استثمار واحد بعينه، فبنوا من جرّاء ذلك ثروات طائلة عندما تضاعف هذا الاستثمار مرّات عدة.
فأي الرأيين هو الأصح؟ وأيهما بنبغي أن تتّبعه في سياستك الاستثمارية؟ الجواب هو: «كلاهما»، وإليك التفصيل:
في البداية لا بد من التفرقة بين عالم الاستثمار وعالم المشاريع, فعالم الاستثمار هو العالم الذي يشغّل فيه المرء المبالغ الفائضة عن حاجته على أمل تحقيق قيمة أكبر في المستقبل، وهو عادة ما ينطوي على المشاركة بالمال فقط دون أن يساهم المرء بالعمل أو القرار أو أي نشاط قد يعطيه ميزة نسبية في فهم الاستثمار أو يعطيه قدرة على تقرير مجراه. أما عالم المشاريع فهو العالم الذي يقوم فيه الشخص بالمساهمة بعمله وتركيزه وجهده (وأحياناً بماله) في بدء وتشغيل مشروع معين، ما يعطيه معرفة عميقة به، وقدرة أكبر على تقرير مصيره من نجاح إلى فشل. ونظراً لوجود هذين العالمين المختلفين، فلكل عالم قواعده وأصوله المختلفة، فالقاعدة العامة في عالم الاستثمار هي التنويع، أما القاعدة العامة في عالم المشاريع فهي التركيز. والسبب في ذلك هو أن صاحب المشروع يكون على علم أكثر بمشروعه وأكثر قدرة على «حراسته» وتقرير مصيره، ما يمكّنه من تركيز أمواله فيه والمغامرة عليه بشكل أكبر، أما المستثمر فهو في النهاية يأتمن ماله لشخص آخر يدير المشروع نيابة عنه، أو لقوى السوق الخفيّة، لذا فهو أقل علماً بما يستثمر فيه وأقل قدرة على المساهمة بنجاحه، ما يؤدي إلى تفضيل التنويع في هذه الحالة لعدم تركيز المخاطرة في استثمار واحد.
وإذا رجعنا للمثل السابق الذي ورد على لسان (آندرو كارنجي) فسنجد أن قائله أسّس إحدى كبريات شركات الحديد والصلب في الولايات المتحدة والتي أصبحت تعرف بـ (يو إس ستيل) أو (حديد الولايات المتحدة). لذا فهو من أصحاب المشاريع وليس من أصحاب الاستثمارات، مما يبرّر مقولته بتركيز بيضه في سلة واحدة.
وللأسف إذا نظرنا للوضع في أسواقنا المحلية والإقليمية فسنجد الآية مقلوبة على رأسها. فنجد المرء يتبع أسلوب التنويع في مشاريعه (فيُشَغّل فوالاً، ومكتب سفر وسياحة، وخبازاً، وخيّاطاً، وحلاقاً...إلخ)، بينما يتبع أسلوب التركيز في استثماراته فيصب كل أمواله في إحدى شركات (الخشاش) أملاً في التضاعف السريع, بينما كان الأجدر به التركيز على مشروع واحد والعمل على نجاحه، وبالمقابل الحرص على التنويع في استثماراته.
وفي هذا الصدد قد يسأل السائل: «إذا كان عليّ أن أختار بين عالم الاستثمار وعالم المشاريع، فأيهما أفضل؟» بالطبع هذا يرجع للشخص نفسه، وميوله الشخصية، مقدار المال الذي يملكه وعدد الفرص التي أمامه لإنشاء مشاريع جديدة. ولكن يمكننا النظر لقائمة مجلة (فوربس) لأغنى 50 شخصا في العالم، كدليل استرشادي على معدل النجاح في هذين العالمين. فإذا استبعدنا من القائمة الذين حصلوا على ثرواتهم بالوراثة، فإننا سنجد أن 72 في المائة منهم بنوا ثرواتهم الضخمة عبر عالم المشاريع, بينما 28 في المائة فقط هم الذين بنوا ثرواتهم عبر الاستثمار. ولعل هذه إشارة إلى أن الأولوية في بناء الثروة تكون ببدء المشاريع وبانتهاج سياسة التركيز فيها، بينما القليلون هم الذين بنوا ثرواتهم بالاستثمار وحده.
لذا فملخص القول إن الشخص إذا كان يفضّل التركيز بهدف بناء ثروة فمن الأجدر به، بدلاً من تركيز أمواله في استثمار بعينه، أن يركّز أمواله في مشروع يقوم بتشغيله والسهر عليه، حيث يمكنه فهم المشروع ومتابعته بشكل أكبر, وبالتالي العمل على نجاحه. كما أن الأولوية بصفة عامة ينبغي أن تكون للمشاريع، نظراً لعوائدها الأعلى إذا أحسن المرء في اختيارها وأخلص في إدارتها. ولكن مع العلم أن المشروع يتطلب جهداً وصبراً أكبر. فمن كان لا يملك فرصاً مناسبة لبدء أو تشغيل مشروع ما، أو من زادت أمواله على الحد الذي يمكنه أن يشغّله في مشروعه، أو من كان لا يرغب في بذل المجهود المرتبط ببدء أو تشغيل مشروع، فيمكنه عندئذٍ تخصيص مبالغه الفائضة للاستثمار، وذلك بانتهاج سياسة التنويع التي نوصي بها دائماً، مع العلم أنه في هذه الحالة لن يحصل على العائد نفسه الذي يمكن أن يحصل عليه صاحب المشروع.
أما القصص التي تُساق كثيراً عن (فلان) من الناس الذي ركز أمواله في استثمار واحد فتضاعف له في فترة قصيرة دون عناء أو تعب أو عمل، فهو يظل الاستثناء وليس القاعدة. وكما تعلمون فإن الاستثناء يُثبت القاعدة ولا ينكرها. إذ إن المثال نفسه قد يساق عن (علان) من الناس صبّ مدخراته كلها في رهان واحد على طاولة القمار (والعياذ بالله) فضرب معه الحظ وضاعف استثماره عشرات المرات في بضع دقائق، ولكن لا يمكن أن يؤخذ ذلك بأي حال من الأحوال كدليل على أن القمار هو الاستراتيجية الرابحة لتكوين الثروة.
شكرااااااا كل الشكر لك استاذ محمد على مقالاتك الرائعة .
مقال رائع جدا يعطيك العافية
نورتنا الله ينور عليك.