في وقت ينخفض الطلب على النفط في الدول الصناعية، يستمر في الصعود الطلب على النفط في الصين وعدد من الدول النامية، بما فيها دول منتجة للنفط، وصافي ذلك زيادة لا بأس بها في الطلب العالمي على النفط. لكن لا يمكن لاتجاهات الطلب العالمي أن تستمر في هذا الشكل في الأجل البعيد لأسباب كثيرة، خصوصاً أن مستوى الطلب الحالي أقل من عام 2000، بما يزيد عن ثمانية ملايين برميل يومياً.
تشير بيانات إلى انخفاض الطلب على النفط في الدول الصناعية في شكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ولعل أكثر البيانات لفتاً للنظر هي بيانات السفر بالسيارات في الولايات المتحدة، فهي تشير إلى انخفاض عدد الأميال التي قطعها الأميركيون بالسيارة، في شكل مستمر منذ الأزمة المالية التي بدأت نهاية عام 2008.
واللافت أكثر في الأمر أن هذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها هذا الانخفاض منذ اختراع السيارة. ونتيجة لذلك، انخفض الطلب على البنزين، ما أدى مع عوامل أخرى إلى انخفاض الطلب على النفط بنحو مليوني برميل يومياً.
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: هل سيؤدي نمو اقتصادي قوي في الدول الصناعية، خصوصاً في الولايات المتحدة، إلى إنعاش الطلب على النفط؟ الإجابة هي أن الانتعاش الاقتصادي لن يعيد استهلاك النفط إلى ما كان عليه قبل الأزمة المالية وذلك للأسباب الآتية:
1- كان متوسط أسعار النفط ولا يزال أعلى مما يمكن أن يتحمله المستهلكون، ما أدى إلى رد فعل قوي من المستهلكين نتج منه انخفاض كبير في استهلاك النفط في الدول الصناعية. ونظراً إلى أن فترة ارتفاع الأسعار استمرت، وعلى عكس ما حصل في الماضي لفترة طويلة، سيستمر التغير الذي طرأ على سلوك المستهلكين ولن يتغير مع انخفاض أسعار النفط. ويدل على ذلك انخفاض نسبة مبيعات السيارات العائلية الكبيرة، وانتشار السيارات ذات الكفاءة العالية في استهلاك البنزين، وانخفاض عدد الرحلات، وكون الانخفاض في استهلاك البنزين تدريجياً وليس مفاجئاً، كما حصل في فترات ارتفاع الأسعار في الماضي.
2- القوانين الملزمة بخلط الإيثانول المستخرج من الذرة مع البنزين، إضافة إلى انتشار بسيط للسيارات المستخدمة للغاز الطبيعي. وتشير بيانات إلى أن نحو 10 في المئة من انخفاض الطلب على البنزين في الولايات المتحدة يعود إلى استخدام الإيثانول.
3- فقاعة العقارات صاحبتها «فقاعة سيارات»، إذ أن سهولة الحصول على قروض مكنت من لا يستطيع شراء سيارة من شرائها، ومكنت من لا يستطيع شراء سيارة عائلية كبيرة من شرائها أيضاً. ونتجت من ذلك زيادة كبيرة في استهلاك البنزين سببها سهولة الحصول على القروض. ومع انفجار الفقاعة تلاشى جزء من الطلب على البنزين تماماً.
4- الحروب في أفغانستان والعراق ساهمت في زيادة الطلب العالمي على النفط بأكثر من 700 ألف برميل يومياً. وتعني نهاية هذه الحروب أو قربها انخفاض نمو الطلب على النفط.
5- والأهم من ذلك كله انتشار تكنولوجيا المعلومات واستخدام "فايسبوك" و"تويتر" و"آيفون" والهواتف الذكية الأخرى، إذ ثمة أدلة تشير إلى أن جزءاً من انخفاض عدد الأميال التي يقطعها الناس في أميركا وأوروبا يعود إلى وسائل الاتصال الاجتماعي، التي خففت الحاجة إلى السفر لرؤية الأهل والأقارب من جهة، وخففت الحاجة في قطاع الأعمال إلى عقد اجتماعات في أماكن محددة، إذ يمكن الاجتماع «إلكترونياً» من دون السفر أو استخدام السيارة، كما أصبح مألوفاً أن يؤدي الموظفون في بعض المهن وظائفهم في منازلهم بدلاً من الذهاب إلى مكتبهم.
والآن ما أهمية ما سبق بالنسبة إلى المستقبل؟ أهميته أن ما حصل أخيراً في أوروبا وأميركا سيحصل في الصين وغيرها. لكن البعض يرى أن هذا سيحصل بعد زمن طويل، خصوصاً مع مقارنة استهلاك الطاقة في الصين حالياً باستهلاك الطاقة في الدول الصناعية.
ويحتج هذا البعض ببيانات تظهر الصين الآن في موقع الولايات المتحدة قبل نحو 80 سنة. لكن يمكن الرد على ذلك بأن الصين تستخدم التكنولوجيا الحالية، وليس التكنولوجيا الأميركية السابقة، وتستخدم السيارات الحالية ذات الكفاءة العالية في استخدام البنزين، وليس السيارات الأميركية القديمة المشهورة باستهلاكها للبنزين. كذلك تستخدم الصين أنواعاً مختلفة من مصادر الطاقة لم تكن متوافرة للولايات المتحدة في الماضي. وستجبر الاختناقات المرورية الناس على تغيير سلوكهم، وعلى استخدام المواصلات العامة، أو الانتقال إلى أمكنة قريبة من أعمالهم، أو رحيل الشركات إلى خارج المدن كما حصل في أوروبا وأميركا واليابان. كل هذه الأمور ستستغرق وقتاً، لكنها ستخفض الطلب على النفط.
خلاصة الأمر أن نمو الطلب العالمي على النفط سيزيد حتى يصل إلى ذروته ثم يبدأ بالتناقص. وعلى رغم استحالة تحديد الفترة المرتقبة والتي سيصل فيها الطلب إلى الذروة، مؤكد أن أسعار النفط المرتفعة ستقصّر هذه الفترة في شكل سيفاجئ الجميع، تماماً كما حصل مع فشل توقعات الطلب على النفط في الماضي.
دائما في القمة يا دكتور ربنا يوفقك