تحت أشجار النخيل في طَيبة الطَيِّبة رسم لنا الرسول الأمي ملامح النظام الاقتصادي في الاسلام، ووضع لنا المبادئ والأسس التي يقوم عليها هذا النظام بما يكفل تحقيق الخير والرفاهية للبشرية جمعاء، ومن هذه الملامح عقد السلم المستخدم أساساً في قطاع الزراعة، والذي شُرِعَ ليحقق مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء، علاوة على المنافع الغير المباشرة التي يكفلها تطبيق هذا النظام للمجتمع ككل، واليوم وبعد أربعة عشر قرناً من التوجيه النبوي يقترح خبراء الاقتصاد المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة حلاً لمعالجة مشكلة الجوع في العالم بما يكفل القضاء على المجاعات في القارة الأفريقية، فتتعالى الأصوات المؤيدة لهذا الاقتراح، وتكتب الصحف عن عبقرية هؤلاء، وعن ذلك الحل السحري، الا أن المتأمل العارف يعلم يقيناً بأن هذا الحل السحري ماهو الا عقد السلم الزراعي المنصوص عليه في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولا عجب فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى.
تتلخص المشكلة الاقتصادية في الفكر الغربي بمفهوم الندرة، فالموارد محدودة والحاجات غير محدودة، حيث أن الموارد بشتى أشكالها وأنواعها لا تكفي لاشباع الحاجات المتزايدة للبشر، وهو الأمر الذي يتناقض مع المبادئ الاسلامية والقرآنية، فالله سبحانه وتعالى يقول: "وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها"، وفي آية أخرى يقول: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"، ويعلمنا الله عز وجل بأن هذه النظرية انما هي من الشيطان فيقول: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا" الا أن ما يتفق عليه علماء الاقتصاد في الفكر الغربي والاسلامي هو أن سوء توزيع الموارد جزء رئيسي من المشكلة، وان التوزيع الغير عادل للموارد يفاقم من وجود هذه المشكلة وآثارها، كما أن بعض سياسات الدول المتقدمة وتصرفات مواطنيها تساهم بشكل مباشر في مشكلتي الفقر والجوع في الدول النامية.
البداية كانت في مطلع القرن العشرين حين ظهرت منتجات مالية متخصصة تمت صياغتها بشكل يتناسب مع احتياجات مزارعي وسط الولايات المتحدة الأمريكية، فهي تسمح لهم ببيع انتاجهم بسعر محدد سلفاً قبل القطاف بما يُسمّى العقود الآجلة Forwards، فالمستثمر أو المزارع يلتزم بشراء أو بيع كمية معينة من الانتاج بسعر ثابت في تاريخ محدد في المستقبل، وبالتالي إن تراجعت الأسعار عند الحصاد يكون المزارع محميّاً، وفي حال ارتفاعها يُحقّق المستثمرون الأرباح، وانتشرت هذه الصورة على نطاق واسع في شتى أنحاء المعمورة.
وهذه الصورة العامة تتشابه إلى حد كبير مع عقد السلم الإسلامي الذي ينص على شراء المحصول من المزارع بتاريخ اليوم على أن يتم التسليم عند الحصاد، فكلا العقدين يوفر الحماية للمزارعين وانتاجهم، وكلا العقدين يوفر الحماية كذلك للمشترين والمستخدم النهائي الذي لن يتحمل مخاطرة ارتفاع الأسعار نتيجة للاحتكار أو نقص المعروض أو غيرها من الأسباب، الا أن الفارق الرئيسي بين العقدين هو في وقت تسليم الثمن، ففي العقود الآجلة يلتزم المشتري بتسليم الثمن لاحقاً عند استلام المحصول بعكس عقد السلم الذي يلتزم فيه المشتري بتسليم الثمن عند توقيع العقد، ولذا تقل احتمالات عدم القدرة على التسليم في العقد الاسلامي بالمقارنة مع العقد التقليدي، ففي العقود الآجلة قد تشح السيولة عند المزارع فيصبح غير قادراً على الوفاء بالتزامات الأرض وما تتطلبه من مؤونة الانتاج، كما أن المستثمر قد يعجز أيضاً عن السداد وقت التسليم لغياب السيولة ونكوله عن الشراء، أما في العقد الاسلامي فالمستثمر قد قام بتسليم الثمن في الحال فلا التزام عليه بعد ذلك، والمزارع توفرت له السيولة الكافية لزراعة الأرض وسقايتها والعناية بها فترتفع احتمالية الوفاء بالتزاماته وتسليم المحصول في الوقت المحدد.
الا أن طبيعة النظام الرأسمالي أدت إلى المزيد من الانحراف في تطبيق هذه العقود، فتم السماح للمستثمرين بالمضاربة في هذه العقود والمتاجرة بها، قبل موعد تنفيذ العقد والتسليم النهائي للسلعة محل التعاقد، وتحولت هذه العقود ذات الطبيعة الوقائية إلى منتجات للمضاربة بداية من مطلع تسعينيات القرن الماضي، فارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية 2300% بين عامي 2003 و2008، أي أن المحصول الذي كانت قيمته 100 دولار ارتفعت قيمته لتصل إلى 2300 دولار، مما أدى إلى نشوب ثورات الجوع في 37 بلداً حسب التقرير الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة.
وقد تسارعت المضاربة على المواد الغذائية الأولية مع انفجار الأزمة المالية، حيث تحول المضاربون ومديري صناديق التحوط إلى سوق المواد الزراعية الغذائية لتعويض خسائرهم في أسواق المال، وقد ذكرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة الفاو في تقريرها الصادر عام 2011 بأن 2% فقط من العقود الآجلة حول المواد الغذائية تؤول إلى التلسيم الفعلي للمحصول، أي انه من كل خمسين عقداً هناك 49 عقداً للمضاربة وعقداً حقيقياً واحداً، ولو فرضنا بأن كل مضارب يطلب لنفسه أرباحاً قيمتها واحد بالمئة فقط من القيمة الأصلية للعقد فإن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع السعر بما مقداره خمسون في المئة Just like this، وهو الرقم الذي يقترب من الارتفاع في معدل أسعار المواد الغذائية الأساسية حسب التقرير الصادر عن منظمة الفاو عام 2008 وقدره 57%.
وقد انتقد الكونجرس الأمريكي عام 2009 بشكل مباشر ما يقوم به المضاربون في سوق السلع الغذائية، وتم الحديث عن امتلاك بعض الوسطاء ما يزيد على 53000 عقد دفعة واحدة، إضافة إلى حيازة ست صناديق استثمارية لأكثر من 130000 عقد من القمح، علماً بأن القانون لا يسمح للعميل العادي بحيازة أكثر من 1000 عقد –على افتراض أن جميع العقود ذات قيمة واحدة-.
وقد أدى هذا الارتفاع الغير مبرر في أسعار المواد الغذائية إلى قيام المنتدى الاقتصادي في دافوس في ينار 2011 بتصنيف هذه المشكلة كواحدة من المخاطر الخمسة الكبرى الجاثمة على رفاهية الأمم، جنباً إلى جنب مع الحرب على الشبكة الافتراضية واقتناء الارهابيين لأسلحة الدمار الشامل.
واليوم يقترح علينا السيد هاينر فلاسبيك رئيس الخبراء الاقتصاديين في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية CNUCED حلاً جذرياً لهذه المشكلة بانتزاع المواد الأولية، والغذائية منها خصوصاً من أيدي المضاربين فيطالب بما نصّه "وحدهم المنتجون والتجار أو مستخدموا المواد الأولية الزراعية يمكنهم التدخل في الأسواق الآجلة، ومن يتفاوض حول صفقة قمح أو أرز أو زيت عليه تسليم المنتج الذي يتفاوض عليه"، كما يطالب أيضاً بوضع حد أدنى مرتفع للتمويل الذاتي، وقد لاقى اقتراح فلاسبيك دعماً قوياً وقبولاً واسعاً من تحالف المنظمات غير الحكومية ومراكز الأبحاث في مختلف دول العالم.
من يتأمل جيداً فيما ورد أعلاه، يعرف أن هذين الأمرين الذين طالب بهما فلاسبيك ومن معه هما أهم شروط عقد السلم في الاقتصاد الاسلامي، فالمطلب الأول يرفض المضاربة في هذا النوع من العقود، وهو شرط أساسي في عقد السلم، حيث لا يجوز بأي حالٍ من الأحوال بيع هذا العقد قبل تاريخ تنفيذ العقد واستلام المحصول، كما أن المطلب الثاني يقترب في تفاصيله وحيثياته من شرط تسليم الثمن عند توقيع العقد، حيث يوفر الحد الأدنى من التمويل والسيولة للمزارعين وملاك الأراضي بما يؤهلهم للوفاء بالتزاماتهم، وتسليم المحاصيل في الوقت المحدد وحسب الشروط المواصفات المنصوص عليها عند التعاقد.
عجب فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى. اللهم صلِ وسلم عليه
ولا عجب فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو الا وحي يوحى. اللهم صلِ وسلم عليه.