حكمة صينية.. لعلنا نقتدي بها

20/12/2011 17
د. فواز العلمي

خلال العقد القادم سيقفز الناتج الإجمالي المحلي للصين من 3000 إلى 7000 مليار دولار أميركي ليتفوق بحجمه على مجموع مثيله في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.

في الأسبوع الماضي احتفلت الصين بمرور 10 سنوات على انضمامها عضواً فعالاً في منظمة التجارة العالمية. تزامن هذا الاحتفال مع حصول روسيا على العضوية، ومُضِّي 5 سنوات على عضوية السعودية في هذا النظام التجاري العالمي. الصين تنعم بالاقتصاد الوحيد في العالم الذي خرق كافة القواعد الاقتصادية.

قبل انضمامها للمنظمة في 11 ديسمبر 2001، لم يكن لدى الصين سوق حرة حقيقية، حيث كانت الحكومة تسيطر على معظم الأنشطة التجارية وتتحكم في كافة القطاعات المصرفية وتمنع استخدام المبتكرات المالية الائتمانية وتفرض المديرين على المؤسسات والشركات وتتدخل في تحديد الأسعار. لذا جاء تأثر الصين بالتباطؤ الاقتصادي خلال السنوات الثلاث الماضية أقل وطأة على أسواقها مما تعاني منه الأسواق الرأسمالية في أميركا وأوروبا.

وسط استغراب علماء الاقتصاد وخبراء التجارة الحرة، لجأت الدول الرأسمالية إلى تعديل سياساتها الاقتصادية، وبدأت باعتماد نظام مالي صارم مماثل للنظام الصيني يمنح الدول الأميركية والأوروبية سيطرة أكبر على قطاعاتها المصرفية وتدخلاً مباشراً في إدارة أسواقها التجارية.

قبل انضمامها للنظام التجاري العالمي، كانت الصين حَذِرة من انفتاح أسواقها على العالم، فقامت بإصدار أنظمة صارمة لتحقيق الاستقرار المطلوب في تعاملاتها التجارية والمالية. كما تفادت الصين الأخطار المحدقة بنموها الاقتصادي من خلال زيادة ضخ استثماراتها التمويلية، فأصبح السوق الصيني خلال فترة التباطؤ الاقتصادي أكثر قدرةً على مواصلة الإنتاجية من أنظمة الأسواق الحرة في الدول الرأسمالية.

القطاع الخاص حصل على نصيب الأسد من هذه الاستثمارات، وأصبح يسيطر على 70% من الاقتصاد الصيني و60% من نمو الناتج المحلي الإجمالي و66% من الوظائف الجديدة المستحدثة.

عندما قامت بإعادة هيكلة قطاعها الصناعي الذي تسيطر عليه الدولة، واستغنت عن 50 مليون عامل وموظف، أخذت الحكومة الصينية على عاتقها توفير السكن بأسعار متدنية لكافة عُمالها وموظفيها ومنحتهم فرصة الاستثمار في مؤسساتها التجارية الحكومية، مما أدى إلى تعزيز مستوى الطبقة الوسطى في المجتمع الصيني. قبل 30 عاماً، كانت نسبة دخل الفرد الواحد من الناتج الصيني الإجمالي لا تزيد عن 500 دولار، وكان 30% من سكان الصين يعانون من الفقر والجوع والمرض. اليوم فاق دخل الفرد 3000 دولار ويعيش 97% من أفراد المجتمع في حال أفضل من أقرانهم في الدول الأوروبية والأميركية.

خلال العقد الماضي حقق الاقتصاد الصيني نتائج باهرة، خاصة في معدلات النمو الحقيقي والصادرات وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر. في عام 2011 أصبحت الصين تتمتع بأسرع نمو اقتصادي في العالم ليتجاوز 9% سنوياً، وغدت تمتلك ثاني أكبر احتياطي نقدي بالدولار الأميركي، بحيث وصل في العام الجاري إلى أكثر من 2,500 مليار دولار أميركي. كما ارتفع فائض الميزان التجاري الصيني من 13% في عام 2001 إلى 72% من ناتجها المحلى الإجمالى بنهاية عام 2010.

خلال 10 سنوات في منظمة التجارة العالمية، أصبحت الصين أكبر منتج للفحم والحديد والأسمنت في العالم، وثاني أكبر مستهلك للطاقة، وثالث أكبر مستورد للنفط، وثالث أكبر دولة تجارية، إلى جانب امتلاكها رابع أكبر ميزانية عسكرية في العالم.

لتواكب هذا النمو الكبير، ستصبح الصين مضطرة بحلول عام 2030 لاستيراد نحو 10 ملايين برميل من النفط و30% من الغاز العالمي يومياً، مما سيزيد الطلب على الطاقة بنسبة 8% من إجمالي الطلب العالمي، لتصبح الصين رهينةً لاستقرار منابع النفط، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.

اليوم تفتخر الصين بأن لديها نصف مليون خبير وعامل صيني يعملون في مشاريع تنفذها أكثر من 390 ألف شركة صينية في 170 دولة حول العالم. واليوم تحتفل الصين بجذب 35% من الاستثمارات الأجنبية في العالم من خلال استثمار 400 شركة عالمية في أسواقها، تصنف من ضمن أكبر 500 شركة في العالم.

اليوم أصبحت الصين أكبر مُصَدِّر للمنتجات إلى الأسواق الأميركية بنسبة وصلت إلى 32% من احتياجات أميركا، مما ساهم في زيادة العجز التجاري الأميركي مع الصين بنسبة 800%. ارتفع هذا العجز من 104 مليارات دولار في عام 2001 إلى 838 مليار دولار في عام 2011، علماً بأن الصين التزمت بفتح أسواقها أمام صادرات الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وقامت بتخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من 221% إلى 17%. ومع ذلك أعلنت المنظمة في منتصف عام 2010 أن الصادرات الصينية حققت نمواً بنسبة 44% ونجحت في تخطي المرتبة الأولى عالمياً.

خلال العقد القادم سيقفز الناتج الإجمالي المحلي للصين من 3,000 إلى 7,000 مليار دولار أميركي ليتفوق بحجمه على مجموع مثيله في دول أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. أصبحت الصين قوة اقتصادية كبرى، وربما تكون في السنوات القليلة القادمة المنافس الأكبر والأهم بالنسبة لأميركا وأوروبا، فالنمو الاقتصادي المتسارع الذي تحققه الصين منذ ربع قرن سيجعلها القوة الاقتصادية العظمى في القرية الكونية، ويرشحها لتكون القوة العسكرية الضاربة في مختلف أرجاء المعمورة.

النجاحات الصينية أصبحت دليلاً واضحاً على قدرة أجهزتها الحكومية على تنفيذ خططها التنموية بدقة متناهية واعتماد أهدافها على بناء قاعدة اقتصادية محكمة ومرنة، ومثابرتها على تسخير مزايا النشاط الرأسمالي لتحقيق أهدافها، دون التخلي عن سياستها الاشتراكية.

تقول الحكمة الصينية: "ليس المهم أن يكون لون القط أسود أو أبيض، المهم أن يلتهم الفئران".