انتشرت خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً سنوات العقد الأول من هذا القرن، منظمات مجتمع مدني تعنى بمسائل الفساد المالي والإداري في العديد من الدول. ولم تعدم البلدان العربية تأسيس هذه المنظمات التي أصبحت تحظى باحترام المواطنين والأحزاب السياسية، ولم يعد في إمكان السلطات الحاكمة تجاهل هذه المؤسسات المجتمعية الجديدة. ولا شك أن طروحات الإصلاح المالي وتعزيز الشفافية في ترسية الأعمال وإنجاز المشاريع واستحداث قوانين ونظم لحماية الأموال العامة والخاصة تعد طروحات قديمة في المجتمعات الديموقراطية التي تعززت فيها نزعات المسؤولية المجتمعية، وبات كل مواطن يشعر بمسؤولية في تأكيد الحكم الرشيد. لابد من الإقرار بأن الفساد لم يتوقف حتى بوجود هذه المنظمات وبعد صدور التشريعات المناهضة له، لكن القدرة على كشف التجاوزات والتحايل في الأعمال أصبحت ممكنة بوجود هذه الأعداد من البشر المستعدين لبذل كل الجهود لمكافحة الفساد، وتحدي أصحاب النفوذ الذين يستغلون مواقعهم من أجل الإثراء غير المشروع، أو تمكين جماعاتهم من الاستفادة من عمليات الإنفاق الحكومي أو التعاقدات المباشرة وغير المباشرة.
إن ما هو جدير بالذكر أن أنظمة الاقتصاد الريعي، وهي الأنظمة السائدة في منطقة الخليج العربي، تسمح من خلال الثغرات الإجرائية والقانونية إلى الاستفادة من الأموال العامة، ويمكن أن نشير إلى عمليات انتعاش عدد من المتنفذين أو السياسيين وبعض رجال الأعمال وبشكل مفاجئ. بيد أن تحدي منظمات مكافحة الفساد ووجود إعلام حر يمكن أن يحدا من هذه الظاهرة المقلقة، والتي قد تعطل عمليات التطور الديموقراطي. ولذلك فإن الدعوة في الكويت لإنجاز قانون النزاهة تصبح مسألة ملحة تستوجب توافق كل القوى الإصلاحية والديموقراطية، وجميع جمعيات النفع العام ذات الصلة. ولا يكفي صدور قانون عام للنزاهة، بل يتطلب الأمر تضمين هذا القانون مواد واضحة بشأن الذمة المالية لكل المسؤولين المنتخبين والمعينين حتى يمكن رصد تطورات أوضاعهم وثرواتهم.
أيضاً، يجب أن نعلم أن تحكم الدولة في جميع الأنشطة الاقتصادية الرئيسية من أعمال القطاع النفطي والمرافق والخدمات الحيوية يمكن من استغلال الأنظمة الإدارية وضعف الرقابة للاستحواذ على المال والنفوذ. ولذلك فإن ما يجب أن يواكب التشريعات الملائمة للنزاهة والشفافية هو تحرير الاقتصاد، كلما كان ذلك ممكناً، من هيمنة الدولة، حيث إن تحويل الأنشطة إلى القطاع الخاص يمكن من توفير رقابة أفضل إذا ما تعززت المنافسة ووضعت أنظمة قانونية مناسبة لأعمال القطاع الخاص في مختلف القطاعات الاقتصادية.
قد يتطلب الأمر إصدار حزمة من القوانين التي تحقق بيئة استثمار وأعمال أكثر نضجاً ومسؤولية، وبحيث يصبح القطاع الخاص خاضعاً لقيم بعيدة عن الاستحواذ واستغلال النفوذ والعلاقات والاعتماد، بدلاً من ذلك، بالإمكانات الفنية والمهنية وتحسين الأداء. إن تطوير أنظمة الشفافية وتعزيز القدرة على مكافحة الفساد يتطلبان أيضاً الاستفادة من تجارب البلدان التي تمكنت من إرساء قواعد واضحة في هذا المضمار، وهنا يمكن الاستعانة بما تم في سنغافورة، أو الاستفادة من منظمات ذات صلة في الهند، حيث تتوافر قدرات فنية مناسبة.
لقد أصبحت عملية مكافحة الفساد مهمة إنسانية واسعة النطاق مثل تلك المتعلقة بحماية البيئة أو مهمة مكافحة الإرهاب، ولذلك يمكن الاستفادة من توجهات المنظمات التابعة للأمم المتحدة وأنشطتها، والتي أرست مفاهيم ومواثيق في هذا المجال. لذلك لا يجب أن تقتصر عملية مكافحة الفساد لدينا على مواجهة حالات آنية، بل لابد من إرساء قواعد قادرة على مواجهة جميع الاحتمالات والتجاوزات في جميع الأوقات، ولذلك لا بد من تعزيز التشريعات القائمة وإصدار ما يؤدي إلى تعزيز الشفافية من قوانين جديدة.