يعتقد الكثير أن أزمة الدين الأمريكي قد طويت صفحته بعد تصديق متخذي القرار الأمريكي على خطة رفع سقف الدين وفي الحقيقة انها بالكاد بدأت! .. تعاني الولايات المتحدة اليوم من مخاض عسير في الاقتصاد فهي تواجه عجزا مالي بلغ ترليون ونصف تقريبا وديون متراكمه تجاوزت اربعة عشر ترليون دولار، وديون مالية لبرامج الضمان الاجتماعى والرعاية الصحية تصل إلى 43 تريليون دولار وهي في وسط اقتصاد عالمي تتهاوى علية الأزمات وهو يترنح بين الانتعاش والانكماش. الأمر الذي حذا بـ150 من أكابر الاقتصاديين الأمريكيين بالتوقيع على مذكرة ورفعها الى البيت الأبيض مطالبة إيها بالإسراع في معالجة هذه الأوضاع الاقتصادية.
ولفهم حقيقية واقع الأزمة المالية الأمريكية سنتناول بعض المفاهيم المتعلقة بالأزمة ثم نقوم بقراءة للأحداث الأخيرة والقيام بربطها مع المقال السابق.
نشأت الدين الأمريكي وأسبابه:
بصورة مبسطة ينتج الدين العام لدولة عندما تزيد نفقاتها عن إيراداتها ويمثل هذا الفرق عجزاً في الميزانية تسدده الدولة عن طريق الاستدانة. ولأهمية مراقبة هذا الدين نصت التشريعات بالولايات المتحدة الأمريكية بالحصول على موافقة الكونغرس عند رغبة الإدارة الأمريكية بزيادة حجم الدين على الخزانة الأمريكية ولقد أصدر الكونغرس الكثير من هذه الموافقات بعد صدور هذا التشريع.
وقد عانت ميزانية الولايات المتحدة بعد حرب فيتنام والحرب الباردة من إتساع عجز الموازنة وتراكم الدين الى ان استطاع الإقتصاد الأمريكي من تحقيق فائضا في الموازنة بلغ 80 مليار دولار تقريبا في عهد الرئيس كلنتون ولكن بعد أحداث الحادي عشر من ستمبر حيث أفرطت الإدارة الأمريكة في عهد الرئيس بوش الإبن في حروب استباقية أصابة دماء ضحياها الإقتصاد الأمريكي بحوبا كبيراً حيث وصل العجز في الموازنة لعام 2007 الى 162 مليار دولار تقريبا وارتفعت نسبة الدين الى الناتج المحلي الى65% ثم ليتزايد هذا الدين ليصل الى 90% من الناتج المحلي مع وقوع الأزمة المالية العالمية.
مفهوم التيسير الكمي (Quantitative easing):
وكنتيجة لهذا المخاض الاقتصادي العسير الاستثنائي كان لابد أن يكون الحل استثنائيا فقام البنك الفدرالي بتطبيق مفهوم التيسير الكمي، وهي سياسة نقدية تستخدمها بعض البنوك المركزية لزيادة المعروض من النقد وعادة ما تـُستـَخدَم هذه السياسة عندما تكون معدلات الفائدة قريبة من الصفر، حيث يتم تخفيف القيود المفروضة على عملية الإصدار فيتم طباعة الكميات المطلوبة من العملة دون قيود وذلك بهدف التأثير على كمية النقود المتداولة في الاقتصاد، فترتكز فكرة التيسير الكمي على عملية ضخ النقود بالاقتصاد من خلال قيام البنك المركزي (الفدرالي) بشراء السندات الحكومية وبالتالي العمل على توجيه المستثمرين نحو الأصول الأخرى(الأراضي والأسهم والسلع) مما سيرفع أسعاره هذه الأصول نتيجة لتوجه هذه الأموال إليها وبالتالي فإن الزيادة في أسعار الأصول من شأنه أن يؤدي الى زيادة ثروات الأسر مما يزيد معدلات إنفاقها الأمر الذي يترتب عليه تحفيز الطلب على هذه السلع وبالتالي توفر فرصة عمل لمواجهة هذا الطلب مما يحقق مستويات أعلا من النمو الاقتصادي.
وفي محاولة لدفع العجلة الاقتصادية للخروج من الركود نفذ البنك الفدرالي الأمريكي في نوفمبر 2008 خطة التيسير الكمي الأولى(QE1) بضخ مايقرب من تريليون دولار في الإقتصاد،ثم قام بتنفيذ خطة التيسير الكمي الثانية(QE2) في أواخر عام 2010 وذلك بضخ 600 مليار دولار أخرى فأدى تطبيق هذه الخطة إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% تقريباً.
قراءة في الأحداث الأخيرة:
بعد أن أصبح الدين الأمريكي محلا لأنظار العالم صدرت اتفاقية اللحظات الأخيرة والتى تنص بإختصار على:
- رفع سقف الدين على مرحلتين بما لا يقل عن 2.1 تريليون حتى نهاية عام 2012 مما سيسمح للخزانة الاميركية بمواصلة مدفوعاتها حتى عام 2013 أي بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية الجديدة.
- يتزامن مع رفع سقف الدين تخفيض في النفقات على مرحلتين، تبدأ المرحلة الأولى فور إقرار الاتفاقية، وتبلغ قيمتها ترليون دولار تقريبا على مدى عشر سنوات.
- تشكيل لجنة برلمانية خاصة متساوية الأعضاء من الحزبين في الكونغرس تكلف بوضع توصيات المرحلة الثانية لتخفيض العجز في الميزانية بـ1.5 تريليون دولار أخرى.
- إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق وتعثر عمل اللجنة يتم خفض الإنفاق بصورة ملزمة في 2013 حيث سيكون الخفض بالتساوي بين النفقات العسكرية والنفقات الأخرى على أن يستثنى من ذلك برامج محدودي الدخل والمستفيدين لرعاية الصحية.
إن المتأمل لهذه الاتفاقية والزخم الإعلامي المصاحب لها ليدرك أن صناع السياسة الاقتصادية الأمريكية ليركنون الى حل أخر غير هذه الاتفاقية التي غلب عليها الصراع السياسي للوصول للرئاسة القادمة
إن من المعلوم لمعالجة أية عُجوزات ينبغي التوجه نحو مصدرين هما الإنفاقات والإيرادات (الضرائب) فيتم العمل على زيادة الأول (الإنفاق) وتقليل الأخر(الضرائب) وهذا ما لا يريده حذاق الاقتصاد الأمريكي في هذا الوقت فبتخفيض الإنفاق تهدر كل الجهود السابقة التي سعت الى تحفيز الاقتصاد كما أن رفع الضرائب من شأنه أن يقلل الإنفاق الاستهلاكي للأسر وبالتالي خفض الطلب الكلي ودخول الاقتصاد في حالة من الركود، إذا ما الحل؟؟؟؟!!
إن الحل الحقيقي الذي تهدف له الولايات المتحدة فصلناه ذكره في المقال السابق (مصيدة ارتفاع الأصول) والذي مع مرور الوقت أصبح هذا الهدف أكثر وضوحاً. وهذا الحل هو ما لا يرغب بذكره صراحةً أهل الشأن في الاقتصاد الأمريكي والذي بدأت بعض الدول بالتنبه إليه بعد أن أصبحنا في المرحلة القبل الأخيرة (مرحلة استعادة الصدارة) من مراحل مصيدة ارتفاع الأصول.
إن البنك الفدرالي الأمريكي يستهدف في هذه المرحلة بقاء أسعار الدولار عند مستويات الحالية المنخفضة وذلك بهدف:
* توجية الطلب المحلي: وذلك بتحفيز الطلب بإتجاة السلع الأمريكية داخل الولايات المتحدة أكبر بلد مستهلك عالمياً من خلال رفع كلفة البضائع الأجبنية نتيجة إنخفاض العملة الأمريكية. (أظهرت وزارة التجارة الأمريكية في تقرير صادر لها خلال شهر يوليوأن المبيعات سجلة خلال الأشهر الثلاثة الماضية ارتفاع بنسبة 8.2% بالمقارنة مع نفس الفترة من عام السابق(.
* تحفيز الصادرات: عن طريق زيادة التنافسية لصادرات الامريكية وتحسين ميزانها التجاري من خلال ارتفاع عوائد التجارة الخارجية وبتالي تتحقق عوائد ضريبة عالية مما سيؤدي إلى تقليل عجز الموازنة.(أظهرت التقارير الإقتصادية ارتفاع مبيعات السيارات الامريكية بنسبة 7.1% في شهر يونيو كما سجلت مبيعات شركة "جنرال موتورز" ارتفاعا واضحا خلال الشهور الستة الأولى من العام الحالي مكنها من إستعادت الصدارة في عالم مصنعي السيارات بعد أن نمت مبيعاتها حول العالم بنسبة 8.9% )
* تخفيض قيمة الدين العام: وكان من المتوقع أن يتم تخفيض قيمة الدين العام من خلال تخفيض قيمة الدولار بطباعة المزيد منه أو بالتلويح بأستخدام طريقة الأفلاس التقني إلا أن الحل أتى بصوره أكثر مكراً وأشد سفكاً وهو تخفيض التصنيف الإئتماني للولايات المتحدة الأمريكية سواء كان هذا التخفيض عمداً أو عن غير قصد فقد أتى أُكله حيث قدرة خسارة الأموال الصينية منفردة في الدين الأمريكي بقيمة 11مليار دولار نتيجة لهذا التخفيض .
إن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تجني اليوم ثمار خطة تيسيرها الكمية التي دفعت أسواق المال لأعلا وذلك لجر عجلة إقتصادها نحو التعافي وما أن يتحقق هذا التعافي ويستقر وهي مرحلة إستعادة الصدارة سيبدأ البنك الفدرالي بترك هذه السياسة (التيسير الكمي) والتوجه نحو سياسة الإستقرار في معدلات الفائدة لفترة معينة ثم يبدأ بتحريك هذه المعدلات لأعلى لنبدأ بدخول المرحلة الأخيرة من مراحل مصيدة إرتفاع الأصول.
ملاحظة:
بعد ترك البنك الفدرالي لسياسة التيسير الكمي وهي سياسة الدولار المنخفض ستتأثر أسواق الأصول بشكل متفاوت إلانها جميعا ستدخل في دورة من الهبوط.
تنبية:
أظهرت بعض المؤشرات الإقتصادية توجه البنك المركزي الأوروبي نحو إتباع سياسة التيسير الكمي لحل مشاكل الإقتصاد الأوربي الأمر الذي سيكون له تأثير متفاوت على أسواق الأصول في الفترة القادمة.
توجية:
ذكرنا في المقال السابق أن التحليلات تشير الى وصول الكثير من اسعار الأصول ومؤشرات الأسواق الى مستويات عالية لذا نصحنا في حينه بالخروج والعودة لمن يرغب بعد وضوح الرؤية، وقد تحقق هذا التحذير حيث هوت الأسواق بمستويات متفاوت وصلت الى 20% ولازال هذا التوجية قائماً في الخروج من هذه الأسواق مع مراقبة الدولار الأمريكي الذي قد يتعافى قريبا.
الكاتب يوصي بالخروج من الاسواق لان اسعار الاصول ستهبط بعد ان انتهى برنامج Q2 حسب قوله.تحياتي.
كلام خطير يعني مازالت امريكا تراهن على ارتفاع الاصول مما يعطي مجالا ً ارحب لرتفاتع الاسهم والعقار والسلع إلى التعافي
مقال مميز جدا وتحليل عميق للمشكلة بارك الله فيك ولكن هبوط الأصول القادم فأل خير على الشعوب التي عانت من التضخم جراء هبوط الدولار أكرر شكري لك
كلام جزل.
الإنفاق العسكري وتكاليف الحروب في أفغانستان والعراق وبعض مدن العالم هو من أوصل الخزينة الأمريكية لهذه الأزمة بالرغم من عدم الإعتراف بهذا أمام الرأي العام الأمريكي.
ﺍﻹﻧﻔﺎﻕ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ﻭﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﺤﺮﻭﺏ ﻓﻲ ﺃﻓﻐﺎﻧﺴﺘﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﺮﺍﻕ ﻭﺑﻌﺾ ﻣﺪﻥ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ ﻣﻦ ﺃﻭﺻﻞ ﺍﻟﺨﺰﻳﻨﺔ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺑﺎﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻋﺪﻡ ﺍﻹﻋﺘﺮﺍﻑ ﺑﻬﺬﺍ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺮﺃﻱ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻷﻣﺮﻳﻜﻲ.
الغريب أن الكاتب يوافق الرأي القائل أن انتعاش الاسواق مؤقت بسبب ضخ الأموال وحزم الانقاذ وأن كساد 2008 لم ينته! يعني ما حصل في أمريكا قفزة مؤقتة
إن من المعلوم لمعالجة أية عُجوزات ينبغي التوجه نحو مصدرين هما الإنفاقات والإيرادات (الضرائب) فيتم العمل على زيادة الأول (الإنفاق) وتقليل الأخر(الضرائب) اتوقع تقصد العكس..!!
أشكركم أخواني جميعا على المشاركة والتفاعل مع الموضوع. (أخوي movado نعم العكس هو المقصود بلا شك، شكراً لك على التنبيه)
استاذي الكريم احمد العنزي ذكرت في المقال الأول هذه الفقرة: "ستضطر دول العالم لشراء هذا الدين مرغمه وذلك للمحفظة على تنافسية صادراتها واستقرار عملاتها امام الدولار". أود أن افهم كيف يحدث ذلك، إذا قامت الدول بشراء الدين الأميركي، فأنها تعزز من تنافسية صاراتها واستقرار عملاتها أمام الدولار. أتمنى توضيح العلاقة والترابط، بشكل مبسط. ولكم منا جزيل الشكر والاحترام.
مرحبا اخوي abbas ومعذره على التأخر بالرد الاجابة وبإختصار نتيجة لزيادة المعروض من الدولار وتأثير ذلك على اسعار العملات الأخرى وبالتالي التأثير على اسعار صادرات هذه الدول تحاول تلك الدول ايعادة هذه الدولارات الى داخل الولايات المتحده عن طريق شراء سندات الدين الامريكي.