هل تؤثر احتياجات دول أوبك المالية وموازناتها في تقلبات إنتاج النفط وأسعاره؟ وهل يمكن لمتطلبات موازنات دول ''أوبك'' أن تشرح تقلبات أسواق النفط العالمية خلال 40 سنة الماضية؟ هذا هو محور مقال اليوم. أدى فشل نظريات الاحتكار والمنافسة في شرح تقلبات أسواق النفط العالمية، إلى ظهور نماذج وشروحات أخرى لتفسير سلوك دول ''أوبك'' أو بعضها. وكان من أهم هذه الطروحات نموذج ''استهداف الإيرادات''، ومحوره أن الدولة النفطية تستهدف تحقيق إيرادات معينة، فإذا حققتها فإنها تخفض الإنتاج. ويمكن تلخيص فكرة هذا النموذج فيما يلي:
1- ارتفاع أسعار النفط يعود إلى أسباب سياسية أو طبيعية، وليس إلى قوة ''أوبك'' أو بعض أعضائها.
2- السعة الاستيعابية للاستثمار والإنفاق الحكومي في دول ''أوبك'' محدودة فوق أسعار نفط معينة. بعبارة أخرى, إذا ارتفعت أسعار النفط فوق حد معين فإنه ليس هناك خيار للحكومة إذا استمرت في مستويات الإنتاج نفسها سوى تخزين الأموال الفائضة في البلاد الأجنبية.
3- إذا ارتفعت الأسعار بشك كاف، تقوم دول ''أوبك'' بتخفيض الإنتاج وذلك لأن أي إنفاق إضافي لن يتم استيعابه وسيؤدي إلى رفع معدلات التضخم بشكل لا يطاق.
4- لا ترغب دول ''أوبك'' في استثمار جزء كبير من فائض الأموال في الغرب، خاصة في فترات ضعف العوائد الحقيقية في الأسواق المالية وانخفاض أسعار الفائدة وانخفض قيمة الدولار. الأمر الذي يؤيد فكرة تخفيض الإنتاج مع ارتفاع أسعار النفط. كما أن بعض دول ''أوبك'' لا ترغب في الاستثمار في الغرب خوفا من استيلاء حكومات الدول الغربية على استثماراتها في الغرب بحجة أو بأخرى، خاصة بعد قيام الحكومات الغربية بتجميد أموال إيران ومصادرة بعضها. هذا الخوف جعل سياسة تخفيض الإنتاج مغرية للغاية مقارنة بالخيارات الأخرى.
5- لا ترغب دول ''أوبك'' في الاحتفاظ بعائدات النفط الدولارية نقدا خوفا من تآكلها بسبب التضخم وانخفاض قيمة الدولار، الأمر الذي يرجح أيضا سياسة تخفيض الإنتاج مع ارتفاع أسعار النفط.
منحنى العرض المعكوس
يرى أنصار هذا النموذج أن الدول المنتجة للنفط تقوم بتحديد احتياجاتها المالية في بداية العام المالي، وبناء على ذلك ''تستهدف'' تحقيق إيرادات معينة، فإذا ارتفعت أسعار النفط وارتفعت الإيرادات بشكل يفوق الاحتياجات المالية المستهدفة، فإنه يتم تخفيض الإنتاج، وإذا استمرت الأسعار بالارتفاع، فإن الإنتاج يستمر بالانخفاض. هذا السلوك ينتج عنه منحنى عرض معكوس ينخفض فيه الإنتاج مع ارتفاع الأسعار فوق الحد المطلوب لدعم الاحتياجات المالية أو الموازنة. هذا يعني أن الجزء الأعلى من العرض يشبه تماما منحنى الطلب.
ويتفق عدد من الباحثين على قصور هذا النموذج لأنه لا يمكن أن يفسر سلوك دول ''أوبك'' على المدى الطويل، ويفسر فقط بعض الفترات في السبعينيات. إلا أن بحوثا أحدث من البحوث المشار إليها ذكرت أن هذا النموذج لا ينطبق نظريا إلا على الدول التي يسود فيها نظام التخطيط المركزي ومعزولة نوعا ما عن العالم. وتؤكد التحليلات الإحصائية هذه النتيجة، حيث إن الدولتين اللتين ينطبق عليهما هذا النموذج هما إيران وليبيا، وكلتاهما تتبنى التخطيط المركزي منعزلتين نوعا ما، مقارنة بدول ''أوبك'' الأخرى بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
الانتقادات الموجهة لنموذج ''استهداف الإيرادات''
1- نظرا لوجود منحنى عرض معكوس فإن التوازن في أسواق النفط غير مستقر إذا نتج عن هذا الانعكاس تقاطع منحنى العرض مع منحنى الطلب في نقطتين. هاتان النقطتان تعكسان كميتين مختلفتين وسعرين مختلفين. ولكن بعض الباحثين أشاروا إلى أن الأسعار ستستقر حول التقاطع الذي سيعكس أسعارا أعلى وكميات أقل لأن الدول ستختار الإنتاج الأقل لتحقيق الاستغلال الأمثل للاحتياطيات. ويرد على ذلك بأن الأسعار قد تستقر عند مستوى أدنى وذلك بسبب الحلقة المفرغة بين الإنتاج والأسعار: ارتفاع الأسعار سيخفض الإنتاج، وانخفاض الإنتاج سيرفع الأسعار. الارتفاع الشديد في الأسعار سيؤدي إلى انخفاض الطلب على النفط بسبب أثر الدخل الناتج عن ارتفاع الأسعار، الأمر الذي سيجبر الدولة على إنتاج المزيد من النفط، وهذا بدوره سيخفض الأسعار. وأشارت إحدى الدراسات إلى أنه حتى لو كان منحنى العرض لبعض الدول معكوسا فإن منحنى العرض للصناعة لن يكون معكوسا، وبالتالي فإن هناك نقطة توازن واحدة، وبالتالي فإن هذا التوازن مستقر.
2- نظرا لأن الطاقة الاستيعابية لدول ''أوبك'' تتوسع باستمرار، ونظرا لأن سرعة التوسع وحجمه يختلف من دولة إلى أخرى، فإن أسعار النفط وفقا لهذا النموذج ستتغير باستمرار، وغالبا ما تتجه الأسعار إلى الانخفاض مقارنة بالماضي. ولكن البيانات التاريخية لا تدعم هذا التوجه.
3- تاريخيا، رفض عدد من الباحثين هذا النموذج لأن يفترض أن الاستثمار الخارجي ليس بديلا للاستثمار الداخلي. ويستدل هؤلاء بالاستثمارات الضخمة لبعض دول ''أوبك''، خاصة الكويت، والتي بنت إمبراطورية مالية ضخمة في الغرب. كما يستدلون ببيانات توضح أن كل دولة من دول ''أوبك'' استثمرت في الدول الغربية. ولكن هذا الانتقاد يتجاهل حقيقة بعض الدول المعزولة التي لا تستطيع الاستثمار في الغرب لأسباب سياسية مثل إيران وليبيا.
4- تشير الدراسات الإحصائية المختلفة إلى أن هذا النموذج لا ينطبق على الإطلاق على ''أوبك'' ككل، ولكنه ينطبق على بعض دولها. ولكن أكثر التحليلات الإحصائية دقة تشير إلى أنه ينطبق على إيران وليبيا، الأمر الذي يؤكد على أن هذا النموذج ينطبق على الدول التي تعتمد اقتصاداتها على التخطيط المركزي ومعزولة نوعا ما.
خلاصة الأمر أن هذا النموذج لا يشرح سلوك ''أوبك'' كمنظمة، ولا يشرح سلوك أغلب دول ''أوبك''، ولكنه يشرح سلوك دولتين فقط هما ليبيا وإيران. ولا يمكن لمتطلبات موازنات دول ''أوبك'' أن تشرح تقلبات أسواق النفط العالمية خلال 40 سنة الماضية. هذا يعني أن أسعار النفط التي تبنى عليها موازنات دول ''أوبك''، خاصة دولها الكبرى، لا تعني شيئا لأسواق النفط العالمية. ولعل من أهم النتائج التي يمكن الوصول إليها من هذا النموذج هو أنه إذا أرادت الدول الغربية الحصول على مزيد من إمدادات النفط فإن كل ما عليها هو رفع الحظر الاقتصادي عن هذه الدول من جهة، ومساعدة الدول المنتجة على توسيع اقتصاداتها من جهة أخرى. رغم هذه النتائج، إلا أنه يجب توخي الحذر لأن انخفاض أسعار النفط تحت حد معين سيؤدي إلى مشكلات اقتصادية وسياسية في الدول النفطية، وقد يؤدي إلى انقطاع إمدادات النفط. هذا يعني أن هناك ارتباطاً بين أسعار النفط وموازنات الدول النفطية، ولكن ليس بالشكل الذي يصوره النموذج المذكور أعلاه.