أدى فشل نظريات الاحتكار وعدم قدرة قوى العرض والطلب على شرح تطورات أسواق النفط العالمية خلال الـ 40 عاما الماضية إلى قيام بعض الباحثين بالتركيز على أسباب ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات. وتبين لهم أن السبب الأساس هو تغير ملكية الاحتياطيات، وانتقال سلطة قرار الإنتاج من الشركات العالمية إلى حكومات الدول المنتجة. وكان من أول من قال بهذه النظرية الدكتور علي الجهني، ثم قام الباحثون فيما بعد بإخضاع هذه النظرية للتحليلات الإحصائية للتأكد من صحتها، بينما قام آخرون بتطويرها وتطبيقها، ليس على فترة السبعينيات فقط، وإنما على فترة الـ 40 سنة الماضية.
أثر التأميم والمشاركة
يرى مؤيدو هذه النظرية أن تخفيض الإنتاج في بداية السبعينيات صاحبه تغير في حقوق الملكية، وذلك عندما قامت بعض الدول النفطية بتأميم شركات النفط العالمية وما تملكه من احتياطيات، بينما قام البعض الآخر بالمشاركة في هذه الشركات حتى امتلكتها بالكامل. نتج عن هذا التغير في الملكية تخفيض تلقائي للإنتاج في أغلب دول ''أوبك''، ولكن دون تنسيق. عدم تنسيق تخفيض الإنتاج يعني أن ''أوبك'' ليست منظمة احتكارية. ولم يكن قيام دول نفطية كبرى بتخفيض الإنتاج هدفه التأثير في الأسعار، أو نتيجة قوتها السوقية، لذلك فإن نموذج احتكار القلة لا ينطبق عليها. ونتيجة هذا كله أن سوق النفط العالمية هي سوق حرة، وارتفاع الأسعار كان نتيجة طبيعية لتغير ملكية الاحتياطيات.
ولكن كيف يؤدي تغير الملكية إلى تخفيض الإنتاج؟ الفكرة هنا أن الأفق الزمني للإنتاج للدول أطول من الأفق الزمني للشركات، خاصة أن الشركات عرفت أنها ستطرد وستغادر في أي لحظة.
عندما علمت الشركات بنوايا الدول المضيفة المتعلقة بالتأميم والمشاركة، أصبحت تتصرف على أنها ستغادر في أي لحظة، أو كما ذكر الدكتور علي الجهني ما ترجمته ''كأنه ليس هناك غدا''. كل ما حاولت الشركات القيام به هو تعظيم منفعتها في ظل الظروف الجديدة، عن طريق إنتاج ما يمكن إنتاجه بغض النظر عن كل القواعد المعروفة في صناعة النفط للحفاظ على المكمن. هذا السلوك يفسر زيادة إنتاج الشركات في بداية السبعينيات. ولكن عندما استولت الحكومات على الاحتياطيات كان هدفها الأول الحفاظ على المكامن، فخفضت الإنتاج، وكان هدفها الثاني تعظيم الإنتاج، الأمر الذي جعلها تخفض الإنتاج بكميات أكبر من ذي قبل. هذا يعني أن الأفق الزمني لإنتاج الشركات كان قصيرا جدا، بينما كان الأفق الزمني للدول أطول من ذلك بكثير، الأمر الذي نتج عنه تغير كامل في سياسة الإنتاج من سياسة توسعية إلى سياسة محافظة. هذه التغيرات أسهمت بدورها في رفع أسعار النفط.
ويرى الباحثون في هذا المجال أن ارتفاع الأسعار في السبعينيات لا يعود إلى تغيير الملكية فقط، وإنما يركزون على أن تغير الملكية أدى إلى تخفيض الإنتاج، وهذا التخفيض أدى إلى خوف التجار في الأسواق العالمية من نقص الإمدادات، الأمر الذي نتج عنه زيادة التخزين والمضاربات، (والذي كان محور مقال الأسبوع ما قبل الماضي). كما يرون أن اقتصادات دول ''أوبك'' في تلك الفترة كانت صغيرة، وقدرتها على استيعاب استثمارات ضخمة وإنفاق حكومي كبير ضعيفة، الأمر الذي جعل بعض الدول تخفض إنتاجها أو ترفض زيادة إنتاجها (وهو موضوع مقال الأسبوع المقبل).
وإذا نظرنا إلى البيانات نجد أن هذا النموذج يمكنه بسهولة شرح تغيرات الإنتاج والأسعار في عامي 1973 ـ 1974، كما يمكنه تفسير ارتفاع الأسعار في فترة 1978 ـ 1979. أما التحليلات الإحصائية فإنها تؤيد جزئيا هذا الشرح، حيث تشير إلى أن تغير ملكية الاحتياطيات يشرح سلوك بعض دول ''أوبك'' مثل الكويت، وليبيا، ونيجيريا، وقطر، وفنزويلا، بينما لا يمكن لهذا النموذج شرح سلوك دول ''أوبك'' الأخرى.
نقد نموذج حقوق الملكية
1ـ لا يمكن لهذا النموذج أن يشرح التغيرات في أسواق النفط العالمية منذ نهاية السبعينيات لأن الدول سيطرت على الاحتياطيات بالكامل مع نهاية السبعينيات. ولكن يرد على هذا الانتقاد بأنه يمكن لهذا النموذج أن يشرح كل تطورات أسواق النفط العالمية حتى يومنا هذا، لأن جوهر هذا النموذج لا يرتكز على انتقال الملكية فقط، وإنما أيضا على إعادة تقويم أصول هذه الملكية. فكما تقوم كل شركة بتقويم أصولها كل عام، يمكن للدول أن تقوم بتقويم أصولها النفطية بالطريقة نفسها، خاصة في ظل التضخم، وانخفاض قيمة الدولار، والتغير المستمر في توقعات الطلب على النفط على المدى الطويل. فهذه التغيرات قد تجبر دول ''أوبك'' على تخفيض الإنتاج كما حصل في بعض الفترات، أو زيادته في فترات أخرى، ودون تنسيق. ولكن يرد على هذا الرد بأن تصرفات بعض دول أوبك لا تتناسق مع فكرة إعادة تقييم الأصول، خاصة في ظل الأزمة المالية الأخيرة والكساد الذي تلاها وتضاعف أسعار النفط في تلك الفترة.
2 ـ يرى بعض الباحثين أن هناك أدلة تاريخية تعارض نتائج هذا النموذج. مثلا، زيادة إنتاج شركات النفط العالمية في الخمسينيات والستينيات كانت نتيجة ضغط الدول المضيفة على الشركات العالمية لزيادة الإنتاج. ولكن هذا الانتقاد يتجاهل حقيقة مفادها أن مدفوعات الشركات للدول المضيفة في ذلك الوقت كانت مرتبطة بكميات الإنتاج، وأي تخفيض للإنتاج يعني انخفاض إيرادات الدول المضيفة.
3 ـ يرى بعض الباحثين أن تخفيض الإنتاج لا يعود إلى تعظيم الإنتاج من المكامن، وإنما إلى أمور أخرى منها أن هذه الدول تمكنت من تغيير ملكية الاحتياطيات ولكن لم يكن لديها التكنولوجيا الحديثة والخبرات اللازمة للاستمرار في الإنتاج في المستويات التي كانت تنتج فيها الشركات العالمية. هذا الانتقاد، رغم صحته، يؤكد فكرة أساسية في النموذج وهي أن انخفاض الإنتاج لم يكن نتيجة القوة الاحتكارية لدول أوبك، وإنما نتيجة وجود سوق نفطية حرة.
4 ـ وبناء على الفقرة السابقة، يرى بعض الباحثين أن بعض الدول خفضت إنتاجها لأسباب بيئية وللتخفيف من حرق الغاز المصاحب للنفط، وقرار تخفيض الإنتاج لم يكن مرتبطا بتعظيم الإنتاج من المكامن.
خلاصة القول إنه يمكن لهذا النموذج أن يشرح سلوك بعض الدول في فترات معينة، ولكن لا يمكنه شرح كل تطورات أسواق النفط خلال الـ 40 عاما الماضية. لذلك فإن البحث عن نموذج مقبول لشرح هذه التطورات سيستمر.