لا أتّهم هيئة الاستثمارات لكن عجزت أن أفهم الإنجازات (3 - 3)

27/11/2010 6
د. أنور أبو العلا

لا يوجد مقولة قابلة للتلاعب بها كمقولة: انّ لغة الأرقام لا تكذب. أول كذبة يمكن أن تكذبها لغة (أو بالأصح لعبة) الأرقام هي تزييف الأرقام نفسها. ولكن الذي لا يقل - وربما يزيد - خطرا عن تزييف الأرقام هو اعطاء الأرقام مفهوما غير مفهومها من أجل الاستشهاد بهذه الأرقام (عن طريق استغلال جهل الناس بتفاصيلها) لإضفاء صفة الإيجابيات على السلبيات ممّا يؤدي - بدلا من اكتشاف وتصحيح الأخطاء - الى استمرار المشي في طريق حلزوني لا يودي ولا يجيب.

الأمثلة كثيرة (ليس لدينا فقط بل في معظم دول العالم الثالث) يتم فيها التلاعب بالأرقام. لكن من أكثر الأرقام التي يكثر التلاعب فيها واعطائها مفاهيم عكس معناها الحقيقي هي: نسبة البطالة، ونسبة التضخم، ومعدلات نمو (ومقدار) الناتج القومي، والقيمة المضافة، ومتوسط دخل الفرد، والقائمة طويلة تدور في حلقة مفرغة كما تدور حبات سبحة مئوية في يد رجل(ولا هانت المرأة) متقاعد يجد منتهى المتعته بتزجية الوقت يعدّ حبات السبحة.

دوري في تقييم انجازات الهيئة العامة للاستثمار كدور الرجل المتطفّل الذي يريد أن يقدّر قيمة مزرعة ضخمة باللف والدّوران حوالين سورها من الخارج لأن الحرّاس يمنعونه من الدخول الى داخل المزرعة ليتعرّف على عدد ونوعية وجودة أشجار المزرعة.

مصادري (أو مراجعي) أهمها تصريحات رئيس هيئة الاستثمار في جريدة الرياض العدد 15433 لاسيما الرسومات البيانية الخمسة الواردة في التقرير فحقيقة كما يقال صورة واحدة تكفي عن الف كلمة. ثم ندوة جريدة عكاظ العددين 3405 و 3406 لكن للأسف الأسئلة الموجهة لرئيس هيئة الاستثمار كانت جانبية (غير حرفية) ولم تتعرض للأرقام. حاولت ان أرجع لتقرير مؤسسة النقد ولكن بطء الانتقال من صفحة لصفحة وعدم وجود امكانية الوصول الى المعلومة مباشرة طفّشتني، فدخلت - رغم ضيق الوقت - على موقع ساقية ولحسن الحظ التقطت - على عجل - معلومة كنت أبحث عنها وهي أن نسبة الضريبة 20 % على صافي الأرباح للأجنبي وأن نسبة الزكاة 2.5 % على رأس المال المحلي. كذلك اطّلعت على عدة مقالات متناثرة بعضها يؤيد وبعضها يعارض ولكن القليل منها المفيد.

الصحفيون أنصار الهيئة (أقصد هيئة الاستثمار طبعا، فالهيئة الأخرى - للأسف - ليس لها أنصار في الصحافة) يستشهدون بالأرقام للتدليل على انجازاتها فيقولون: لقد بلغ رأس المال الأجنبي المستثمر في المملكة 552 مليار ريال، وأحدث 375 ألف وظيفة، ويدفع ضرائب 7.7 مليارات ريال، ويدفع أجور 29.3 مليار ريال. ثم يستطردون - كالببغاء - في سرد أرقام صماء (أجزم أن معظمهم لايعرفون معناها) فيقولون بلغت مبيعاته 395 مليار ريال (وهم لايعرفون هل تم بيعها في يوم أو شهر أو سنة أو عشر سنوات وهل هي مبيعات محلية أو تشمل الصادرات) وبلغت مشترياته 225 مليار ريال وتبلغ صادراته 57 % من صادرات المملكة باستثناء البترول (وكأنّنا نصدر شيئا - يستحق الذكر - غير البترول).

لو عرفنا تفاصيل هذه الأرقام السبعة الواردة في الفقرة أعلاه (وهي التي كان يجب تركيز الأسئلة عليها في الندوات التي تعقدها هيئة الاستثمار) لاتضحت لنا كثير من الملامح الغامضة عن مدى جدوى الاستثمار الأجنبي على اقتصاد المملكة.

لقد سبق في الحلقتين السابقتين أن ناقشت على الخفيف مسألة عدد الوظائف وعرفنا أن من كل أربعة وظائف واحدة فقط للمواطن وثلاثة للاستقدام. كما قلت أيضا لو حسبنا الضريبة بالنسبة لرأس المال فهي فقط 1.4 % أي نصف ماتفرضه الزكاة على راس المال الوطني الذي يبلغ 2.5 % وهذه ميزة لايستهان بها يتميز بها الاستثمار الأجنبي على الاستثمار الوطني.

لو طبقنا نفس الطريقة الحسابية على الأرقام الخمسة الباقية لعرفنا أنها جميعها من برة هالله هالله ومن جوة يعلم الله. فلنبدأ بمبلغ الأجور البالغ 29.3 مليار ريال، لو حسبنا متوسط الأجور بالتساوي فإنه من كل أربعة ريالات سيذهب ريال واحد للسعوديين وثلاثة ريالات للأجانب.

كذلك مبلغ مشترياته المحلية البالغ 225 مليار ريال. الواقع أن هذا المبلغ سبب لي ارباكا فلم أفهم ليس فقط المدة التي تمت فيها هذه المشتريات بل أيضا تفاصيل هذه المشتريات واخشى ما أخشاه (وهذه مصيبة) اذا كانت هذه المشتريات تشمل ضمن عناصرها الوقود واللقيم feedstock التي يحصل عليها بسعر التكلفة بأرخص كثيرا من سعر السوق.

عمود الأسبوع القادم - ان شاء الله - سنخصّصه لإطراء جهود الهيئة من باب الإنصاف فهي لاشك أن لها كثيرا من الإيجابيات التي يتجاهلها المهاجمون.

*رئيس مركز اقتصاديات البترول

" مركز غير هادف للربح"