سيتم في حلقة اليوم الاستمرار في استعراض أهم آثار انخفاض أسعار النفط في التسعينيات ضمن مراجعة تاريخية مختصرة لتطورات أسعار النفط خلال الـ40 سنة الماضية، التي تعد ضرورية لاستعراض النظريات المختلفة التي تشرح سلوك ''أوبك'' خلال الفترة نفسها.
الآثار السلبية لأسعار النفط المنخفضة في المستهلكين
رغم الفوائد العديدة التي تمتع بها مستهلكو النفط بسبب انخفاض أسعاره, إلا أن انخفاض أسعار النفط في عام 1998 وبداية 1999 أثر سلبياً في الأمن القومي والبيئة وعرضهما للخطر. لذلك، فإنه حتى من وجهة نظر المستهلك, فإن هناك فوائد ومساوئ لانخفاض أسعار النفط, وفيما يلي بعض الآثار السلبية لانخفاض أسعار النفط على المستهلكين، التي يبدو بعضها وكأنه منافع للمنتجين، بهدف توضيح فكرة مهمة، وهي أن انخفاض الأسعار أسهم في انخفاض الإنتاج, كما تبين في الحلقة الماضية، وأنه يؤدي إلى زيادة الطلب، كما ستبين حلقة اليوم، هذا يعني أن انخفاض أسعار النفط سيؤدي تلقائيا إلى ارتفاع أسعار النفط، فيما بعد سواء وجدت ''أوبك'' أم لم توجد.
1- زيادة الاعتماد على النفط على حساب مصادر الطاقة الأخرى
أدى إلى انخفاض أسعار النفط إلى توقف نمو استهلاك مصادر الطاقة الأخرى مثل الغاز، والفحم، والطاقة النووية، والشمسية, وهذا يعني زيادة الاعتماد على مصدر واحد للطاقة في الوقت الذي تدعو فيه استراتيجيات الطاقة في الدول المستهلكة إلى تنويع مصادر الطاقة لتلافي أزمات نفطية في حال انقطاع إمدادات النفط. وتشير البيانات إلى ارتفاع حصة النفط من إجمالي استهلاك الطاقة عام 1986 عندما انهارت أسعار النفط، وإلى ارتفاع هذه الحصة مرة أخرى في عامي 1998 و1999 بسبب انخفاض أسعار النفط في تلك الفترة. وبما أن الحديث هنا عن الحصة (أو النسبة)، فإن هذا يعني بالضرورة أن هذه الزيادة جاءت على حساب المصادر الأخرى.
2- زيادة الاعتماد على واردات النفط
تؤدي أسعار النفط المنخفضة عادة إلى زيادة واردات النفط, وبالتالي زيادة اعتماد الدول المستهلكة على النفط المستورد. ويرى كثيرون أن هذه الزيادة تعرض الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي في الدول المستهلكة للخطر. وإذا أخذنا الولايات المتحدة، أكبر مستهلك للنفط في العالم، كمثال، نجد أن وارداتها انخفضت بشكل مستمر في النصف الأول من الثمانينيات بسبب ارتفاع أسعار النفط في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، لكن مع انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينيات، وبقاء الأسعار منخفضة نسبيا في التسعينيات، ارتفعت الواردات بشكل كبير, حيث تضاعفت بين عامي 1985 و2000. ويرى عديد من المحللين والسياسيين أن هناك تكلفة اقتصادية واجتماعية تصاحب واردات النفط, التي عادت لا تنعكس في أسعار هذه الواردات. مثلا، قد تضطر الدول المستهلكة إلى تغيير سياساتها الخارجية بما يخص بعض الأمور للوصول إلى تسوية سياسية بسبب ضغط الدول المصدرة للنفط. وبالنسبة لهؤلاء, فإن زيادة الاعتماد على واردات النفط يعني مزيدا من التنازلات السياسية وارتفاع التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لهذه الواردات. وتتمثل التكاليف الاجتماعية في عدم قدرة بعض شرائح المجتمع على الحصول على المواد النفطية في حالة انقطاع الإمدادات، وارتفاع أسعار المنتجات النفطية. أما التكاليف الاقتصادية فإنها تتمثل في التضخم والبطالة الناتجين عن انقطاع الإمدادات وارتفاع أسعار النفط. وفي محاولة لدراسة أثر انقطاع إمدادات النفط في الاقتصاد الأمريكي, قام مكتب التقييم التكنولوجي بإعداد تقرير عام 1984 يتضمن محاكاة لحالة يتم فيها انقطاع مفاجئ لواردات بمقدار ثلاثة ملايين برميل يومياً. واستنتج التقرير أن الناتج المحلي الإجمالي سينخفض بمقدار 5 في المائة إلى 9 في المائة, وأن التضخم سيرتفع بمقدار 2.7 في المائة إلى 5.4 في المائة, وأن البطالة ستزيد بمقدار 1.7 في المائة إلى 2.4 في المائة. كما استنتج التقرير أن الاستثمار الخاص والاستهلاك سينخفضان. وأوضحت دراسة أخرى نشرت عام 1979 أن زيادة الاعتماد على واردات النفط ستؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط, وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي, وزيادة التوتر السياسي على المستوى العالمي. وأشارت دراسة نشرت في عام 1996 إلى أنه في الوقت الذي سيؤدي فيه انقطاع الإمدادات إلى توتر العلاقات بين الدول المنتجة والمستهلكة, فإن زيادة الاعتماد على واردات النفط ستؤدي إلى زيادة إيرادات دول الخليج, وقد يؤدي ذلك إلى زيادة التسلح, وزيادة النفوذ, والصراع العسكري في منطقة اشتهرت تاريخيا بعدم الاستقرار.
3- انخفاض مستويات الكفاءة وزيادة التلوث
يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى زيادة استهلاكه, ويؤدي هذا بدوره إلى انخفاض مستويات الكفاءة في الاستخدام وزيادة التلوث. وتدل إحصائيات إدارة الطرق الفيدرالية الأمريكية المنشورة في تقريرها السنوي على انخفاض مستويات نمو الكفاءة في قطاع المواصلات مع انخفاض أسعار النفط لدرجة أن التحسن توقف في عديد من المجالات. وتشير البيانات إلى وجود علاقة طردية بين ارتفاع أسعار النفط وتحسن مستويات الكفاءة, فمع ارتفاع أسعار النفط في السبعينيات وأوائل الثمانينيات, تحسنت كفاءة محركات السيارات الصغيرة بمقدار 2.9 في المائة سنوياً بين عامي 1976 و1990. لكن الكفاءة انخفضت إلى 0.01 في المائة سنوياً بعد ذلك, عندما انخفضت الأسعار. كما أوضح التقرير أن كفاءة محركات سيارات النقل الصغيرة في استخدام الوقود لم تتحسن منذ عام 1982 عندما بدأت أسعار النفط في الانخفاض. والأهم من ذلك كله أن الكفاءة في قطاع المواصلات انخفضت في عامين متتاليين فقط خلال 35 سنة الماضية هما 1998 و1999، وهي فترة انهيار أسعار النفط. خلاصة الأمر أن الأسعار المنخفضة ليست من مصلحة الدول المستهلكة وأن رفع الأسعار إلى مستوى معين أصبح مطلوبا من المنتجين والمستهلكين في هذه الحالة، في الوقت الذي تلعب فيه قوى السوق دورها لرفع الأسعار, حيث إن الأسعار المنخفضة ستعالج بنفسها مشكلة انخفاضها عن طريق رفع الطلب وتخفيض الإنتاج. هذا يعني أنه حتى لو قامت ''أوبك'' بأي تصرف لرفع الأسعار، فإنها ستجد دعما من قوى السوق من جهة، ولن تجد معارضة من الدول المستهلكة من جهة أخرى. هذه الخلاصة مهمة لفهم سلوك ''أوبك'' ودورها في أسواق النفط العالمية.