هناك خلاف كبير بين الباحثين حول ماهية ''أوبك'' ودورها في أسواق النفط العالمية. وإذا ألقينا نظرة سريعة على البحوث التي ركزت على ''أوبك'' ودورها في أسواق النفط العالمية خلال 40 سنة الماضية نجد أنه يمكن تقسيمها إلى قسمين, بحوث تركز على القوة الاحتكارية لـ ''أوبك'' في تفسير التغير في أسعار النفط وتستخدم النماذج الاحتكارية المعروفة في كتب الاقتصاد الجزئي. وبحوث ترى أن هناك تفسيرات أخرى لأن ''أوبك'' ليس لديها القدرة على التحكم في أسواق النفط العالمية.
ولكن هناك عدد من الباحثين الذي يرون أن أسواق النفط العالمية تتمتع بالمنافسة وأن شروط المنظمة الاحتكارية لا تنطبق على ''أوبك'' أو أي جزء منها. كما يقدمون تفسيرات أخرى لا تتعلق بالاحتكار لسلوك أسعار النفط خلال الـ 30 سنة الماضية. وسنجد فيما بعد أنه ضمن كل من هذين المجموعتين نماذج مختلفة لشرح سلوك ''أوبك'' إما في أوقات مختلفة وإما بناء على متغيرات معينة. ومن الواضح أن أحد العوامل التي يختلف عليها الباحثون هي ما إذا كانت ''أوبك'' تهدف إلى تعظيم الثروة, أو إلى تعظيم أمور أخرى مثل الإيرادات أو منافع اجتماعية أو سياسية.
وسيتم في الحلقات القادمة تقديم لمحة عامة عن أسعار النفط والإنتاج خلال الـ 40 سنة الماضية يليها شرح للنماذج الاحتكارية ومدى انطباقها على ''أوبك'', ثم شرح للنماذج غير الاحتكارية ومدى انطباقها على ''أوبك'', ثم نقاش مفصل حول ما إذا كانت ''أوبك'' منظمة احتكارية أم لا، ومدى قدرتها على إدارة أسواق النفط العالمية.
إن أي نموذج اقتصادي لتفسير سلوك ''أوبك'' يجب أن يكون قادرا على تفسير تغيرات الإنتاج والأسعار خلال العقود الأربعة الماضية، وإذا فشل هذا النموذج في تفسير تلك الفترة أو جزءا منها فإنه لا يؤخذ به. وإذا كان هناك تغير في سلوك ''أوبك'' فيجب أن يتم إثبات ذلك نظريا وإحصائيا، الأمر الذي قد يسمح باستخدام نموذج اقتصادي آخر لشرح سلوك ''أوبك'' في الفترة الجديدة.
من هذا المنطلق فإن النموذج الاقتصادي الأمثل الذي يشرح سلوك ''أوبك''، هو الذي يفسر تغيرات مستويات الإنتاج في ''أوبك'' وخارج ''أوبك''، وتقلب أسعار النفط، علما بأن التغيرات الكبيرة والسريعة في أسعار النفط كانت مرتبطة بأحداث سياسية ما عدا الارتفاع الأخير قبل فترة الكساد الاقتصادي الأخيرة.
لمحة تاريخية ارتفعت أسعار النفط في عام 1973 بعد أن قامت بعض الدول العربية بفرض مقاطعة نفطية يوم 19 تشرين الأول (أكتوبر) على الولايات المتحدة وهولندا بسبب دعمهما لإسرائيل في حرب رمضان. كما قامت بتخفيض الإنتاج لدعم المقاطعة. وعلى الرغم من أن المقاطعة وتخفيض الإنتاج أديا إلى تخفيض الإنتاج العالمي بمقدار 5 في المائة فقط, وعلى الرغم من أن هذا استمر فعلياً لمدة شهرين فقط, إلا أن أسعار النفط ارتفعت بمقدار أربعة أضعاف من نحو ثلاثة دولارات للبرميل إلى 12 دولارا للبرميل. والغريب في الأمر أنه من المفروض أن تعود الأسعار إلى ما كانت عليه بعد انتهاء المقاطعة كما حصل بعد المقاطعة النفطية في عامي 1956 و1967, ولكن هذا لم يحدث. فقد بقيت الأسعار عند مستوياتها العالية، بل إنها ارتفعت فيما بعد ووصلت إلى 14 دولارا للبرميل. وقد أسهم ارتفاع أسعار النفط في تخفيض الطلب العالمي على النفط في تلك الفترة, غالباً بسبب انخفاض معدلات النمو الاقتصادي في الدول المستهلكة. هذه الأمور توضح أن دور المقاطعة في رفع أسعار النفط كان محدوداً، وأن هناك عوامل أخرى أسهمت في رفع أسعار النفط وبقائها على تلك المستويات المرتفعة. ويتفق عدد من كبار الخبراء على أن ارتفاع الأسعار كان سيحصل حتى لو لم تحدث المقاطعة على الإطلاق.
ولما بدأت مظاهرات العمال في إيران، التي تضمنت إضراب عمال النفط أيضا، بدأت الأسعار بالتذبذب والارتفاع، ثم ارتفعت بشكل كبير في نهاية عام 1978 وبداية عام 1979 مع زيادة القلاقل السياسية في إيران، وهروب الشاه ثم تسلام آية الله خميني السلطة. وسيتم في المقال القادم التركيز على فترة الثورة الإيرانية ثم بداية الحرب العراقية ـــ الإيرانية وأثرها في أسواق النفط العالمية. وقد أدى تخفيض الإنتاج في نهاية عام 1973 إلى اقتناع بعض الباحثين بأن ''أوبك'' أصبحت منظمة احتكارية قوية تستطيع التحكم بأسعار النفط العالمية, خاصة أن دول خارج ''أوبك'' تصرفت بشكل مختلف، حيث قامت بزيادة الإنتاج مع ارتفاع الأسعار. ولكن هناك عدد من الباحثين الذي يرون أن هناك عوامل أخرى أسهمت في تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار, وأن ارتفاع أسعار النفط لا يعود إلى القوة الاحتكارية لـ ''أوبك'', خاصة أنه لم يكن لدى ''أوبك'' في ذلك الوقت أي حصص إنتاجية. وتتضمن هذه العوامل نقل ملكية الاحتياطيات من الشركات العالمية إلى الدول المضيفة إما عن طريق التأميم وإما عن طريق المشاركة, وضعف القدرة الاستيعابية لاقتصادات الدول المنتجة التي لم تمكنها من استيعاب واستثمار الأموال الضخمة التي نتجت عن ارتفاع أسعار النفط, والتخوف من العواقب البيئية الناتجة عن حرق الغاز المصاحب, وتخوف المتعاملين في أسواق النفط العالمية وتخزينهم كميات كبيرة من النفط, وتحديد الولايات المتحدة أسعار النفط والمشتقات النفطية, التي جعلت أسعار النفط داخل الولايات المتحدة أقل من الأسعار العالمية, فخفضت الإنتاج الأمريكي, وزادت طلب الولايات المتحدة على النفط، ورفعت وراداتها النفطية. بعبارة أخرى، أسهمت الولايات المتحدة في رفع أسعار النفط عالميا عن طريق تحديد أسعار النفط بأقل من أسعارها الحقيقية داخل الولايات المتحدة. ولن أتطرق هنا للدور السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة في رفع أسعار النفط في عام 1973 الذي يختلف حوله الخبراء، وتنتشر حوله نظريات مؤامرة متعددة.