أشرت في مقالات سابقة إلى أن هناك تغيرات ملموسة قد بدأت تطرأ على السياسة النقدية لمصرف قطر المركزي، وتمثل ذلك في خفض سعر فائدة إيداع البنوك لديه من 2 إلى 1.5%، في أوائل شهر أغسطس، ثم إقدامه على تقليص حجم السندات النقدية المصدرة للبنوك في شهري يوليو وأغسطس، وهو ما يمكن تفسيره برغبة المركزي في تخفيف قبضته على السياسة النقدية بهدف زيادة السيولة لدى الجهاز المصرفي. وقد كان لهاتين الخطوتين تأثيرهما الإيجابي على أداء المصارف، وبدا ذلك واضحاً من زيادة إجمالي التسهيلات الائتمانية المقدمة في شهري يوليو وأغسطس، ومن زيادة إجمالي الودائع الجارية على حساب الودائع لأجل، وهو ما انعكس بالإيجاب على أداء البورصة، فانتعشت تداولاتها في النصف الثاني من شهر أغسطس وارتفعت أسعار الأسهم ومؤشر البورصة. فهل ما زالت في جعبة المركزي إجراءات أخرى في إطار السياسة النقدية والمصرفية لدعم نمو القطاع الخاص، وإخراج معدل التضخم من المنطقة السالبة التي دخل فيها منذ بداية عام 2009، ولزيادة السيولة المتاحة للتداول في البورصة؟ وإلى أي مدى يمكن التوسع في استخدام تلك الأدوات بدون أن يحدث تسارع في النمو الاقتصادي يخرج بمقتضاه معدل التضخم عن السيطرة؟
للإجابة على هذا التساؤل لابد من التذكير أولاً بأن لدى المركزي عدد من أدوات السياسة النقدية التي لم تستخدم بعد، والتي سيكون من شأن تحريكها –ولو بالتدريج- إحداث نتائج مهمة على كافة الأصعدة المشار إليها أعلاه، فما هي هذه الأدوات؟
أول هذه الأدوات هو سعر فائدة اقتراض البنوك من المركزي الذي تجمد لأكثر من عامين عند مستوى 5.5%، في الوقت الذي انخفض فيه سعر فائدة الإيداع إلى 1.5%، بما يرفع الهامش بين السعرين إلى 4%، وهو أعلى هامش بينهما في فترة تزيد عن عشر سنوات، وكان الهامش في سنوات سابقة يتراوح ما بين 10-20 درهماً فقط. وقد كان اتساع الهامش بين معدلات الفائدة من العوامل السلبية في تصنيف قطر التنافسي هذا العام، حيث تراجع ترتيبها إلى المركز 61 بدلاً من المركز 44 في العام الماضي. ومن شأن ارتفاع الهامش هذا العام إلى 4% بعد خفض سعر فائدة الإيداع إلى 1.5% أن يدفع باتجاه تأخير ترتيب قطر التنافسي في العام القادم. على أنه لا بد من الإشارة إلى أن ارتفاع الهامش كان من العوامل التي ساعدت في ضبط معدل التضخم في قطر وتحوله إلى معدل سلبي، وهو أمر جيد ويُحسب لمصرف قطر المركزي، ولكن استمرار المعدل سالباً لأكثر من عام ونصف أمر غير محمود، وربما كان من الأفضل لو تم تقليص الهامش عن طريق خفض معدل فائدة الإقراض بالتدريج إلى 3%.
وثاني هذه الأدوات هي نسبة الاحتياطي الإلزامي التي تحتفظ البنوك بموجبها بجزء من ودائع العملاء لدى المركزي بدون فائدة، وقد ارتفعت هذه النسبة في ظروف الأزمة المالية العالمية من 2.75% حتى عام 2007 إلى 4.75% منذ أبريل عام 2008. ورغم تبدل الأحوال خلال العامين الماضيين، إلا أن النسبة ظلت كما هي بدون تغير، مما شكل زيادة في تكلفة الودائع لدى البنوك وعمق من مسألة اتساع هامش الفائدة، وأي تحرك باتجاه خفض هذه النسبة تدريجياً-كما ارتفعت تدريجياً- إلى 3.25%مثلا قد يكون عاملاً إيجابياً في صالح تحسن أداء الاقتصاد القطري.
وثالث الأدوات المتاحة للمركزي هي السندات النقدية التي يصدرها المركزي وتشتريها البنوك لآجال قصيرة الأجل تتراوح ما بين شهر و 9 شهور، بفائدة تزيد في العادة عن سعر فائدة الإيداع وتقل عن فائدة الاقتراض من المركزي، أي أنها غالباً في حدود 3%. وقد تقلص حجم السندات النقدية المُصدرة في الشهرين الأخيرين يوليو وأغسطس إلى نحو 6 مليار ريال، وهو ما يمكن اعتباره تحولاً في السياسة النقدية باتجاه العمل على زيادة السيولة في الجهاز المصرفي. ولكي يخرج الاقتصاد من عنق زجاجة التضخم السلبي، ولكي يتم منح القطاع الخاص المزيد من التسهيلات الائتمانية، فإن ذلك يتطلب ضخ المزيد من السيولة في الجهاز المصرفي، وبالتالي قد يكون من المناسب سحب المزيد من السندات النقدية من البنوك في الشهور القادمة.
ورابع الأدوات النقدية المتاحة لدى المركزي، هي آلية QMR، والتي تودع البنوك بموجبها أموالاً لدى المركزي لفترات قصيرة الأجل بفائدة هي 1.5% حالياً. وكان الأصل في هذا الأداة فتح نافذة أمام البنوك للاستفادة من فوائض أموالها غير الموظفة بإيداعها لدى المركزي، وبشرط ألا تزيد المبالغ المودعة في أي وقت عن سقف معين لا يزيد لكل البنوك عن 5 مليار ريال. وخلال الأزمة المالية العالمية تم إزالة السقوف المعمول بها وأصبح بإمكان أي بنك إيداع ما يشاء لدى المركزي بفائدة 1.5%. وقد نتج عن ذلك زيادة المبالغ المودعة لدى المركزي من بضع مليارات فقط قبل عامين إلى أكثر من 42 مليار ريال مع نهاية شهر أغسطس الماضي. وهذا الأمر بات يكلف المركزي مئات الملايين من الريالات سنوياً، فضلاً عن أنه يشجع البنوك على عدم التوسع في إقراض القطاع الخاص، ومن ثم قد يكون من المفيد إعادة النظر في شروط هذه الآلية كأن يتم العودة إلى استخدام السقوف ثانية، ولو بالتدريج لدراسة الآثار التي تنتج عن هذا التحول.
وبعد فقد كانت هذه مجموعة من الاقتراحات التي يمكن دراستها من جانب السلطات النقدية من أجل تنشيط القطاع الخاص وزيادة السيولة المتاحة في الجهاز المصرفي، وقد يتطلب الأمر تفصيلات أخرى قد نعود إليها في مقال آخر بإذن الله.