عندما تقرر وزارة الاقتصاد والتجارة ضخ مليارات الريالات في صورة تعويضات لأصحاب العقارات والأراضي التي استملكتها الحكومة، فذلك لم يكن مجرد إجراء مالي أو محاسبي معتاد لتسوية مديونيات مستحقة للغير، وإنما يندرج - لضخامة حجم تلك المدفوعات - ضمن السياسات المالية التي تتخذها الوزارة في وقت ما لتصحيح أوضاع اقتصادية غير طبيعية، وللتأثير على معطيات بدا أنها خرجت عن السياق المتوقع أو المخطط له. وعلى نحو مماثل وفي نفس الفترة قرر مصرف قطر المركزي - الذي جمد سعر فائدة الإيداع لديه لأكثر من عامين - أن يخفض ذلك السعر بنصف نقطة مئوية إلى 1.5%. هذا التزامن والتوافق بين السياستين المالية والنقدية لم يكن – في الغالب - صدفة، وإنما سعت إليه الحكومة ممثلة في الوزارة والمصرف لمعالجة أوضاع مستجدة في الساحة الاقتصادية القطرية. وقد أشرت في سلسلة من المقالات السابقة لهذه المستجدات وأوضحتها بشكل لا لبس فيه، ثم ربطت بينها جميعاً في مقال واحد عندما كتبت عن التوافق بين أرقام المركزي والإحصاء والبورصة وقلت يومها إن جمود الائتمان المصرفي المقدم للقطاع الخاص، قد أثر على نشاط هذا القطاع فانكمش ناتجه في الربع الأول من العام، وظل معدل التضخم سالباً بنسبة 2.8% حتى نهاية يونيو وفق بيانات الإحصاء، وتقلصت السيوله المتاحة للتداول في البورصة، وعجز المؤشر عن الارتفاع فوق مستوى 7000 نقطة، وذهبت التوقعات عندئذ إلى أن الأمور ستزداد سوءاً مع اشتداد الحر في موسم الصيف وتزامنه مع شهر رمضان المبارك.
هذه الأوضاع المعاكسةكانت مفاجئة – على ما يبدو - للكثيرين الذين ذهبت توقعاتهم في بداية العام إلى أن الاقتصاد القطري سيحقق أعلى معدلات للنمو في العالم في عام 2010 - إن بالمعدلات الحقيقية أو بالإسمية - ومن ثم تصوروا أن الإبحار في اتجاه التخفيف من القيود المفروضة على السيولة المحلية سيسهم في عودة سريعة للتضخم المرتفع الذي أصاب الاقتصاد القطري قبل عام 2009. آما وقد انقضى منتصف العام والأمور على النحو الذي أشرت إليه، فإن المنطق بات يستدعي تدخلاً عاجلاً لتصويب المسار، وتلخص ذلك التدخل في أمرين الأول ضخ سيولة عاجلة وبكميات كبيرة للقطريين أفراداً وشركات، وقامت به وزارة الاقتصاد والمالية من خلال التعويض عن استملاكات عقارية، والثاني وقام به مصرف قطر المركزي بخفض سعر فائدة المصرف للإيداع بعد أن راكمت البنوك المحلية لديه ما مجموعة 41 مليار ريال - حتى نهاية يوليو - في صورة أرصدة جارية وودائع قصيرة الأجل، بدلاً من التوسع في الإقراض للقطاع الخاص. وقد شهد الأسبوع الماضي بعض التحسن في أداء البورصة وارتفع المؤشر بشكل محدود بما يمكن القول إنه ناتج بعض الشيء عن خطوتي السياسة المالية والنقدية المشار إليهما.
على إنه كان من الممكن أن تكون النتائج المتحققة من الخطوتين أفضل لو تم الإفصاح عن القرارات المتخذة بشكل صريح وواضح، إذ أن الإعلان عن السياسة جزء مهم وأساسي لنجاحها. ونجد في هذا المجال أن وزارات المالية والبنوك المركزية في الدول الغربية تحرص على الإعلان عن مواعيد اجتماعات لجانها، وتسارع إلى نشر القرارات التي يتم اتخاذها ومبررات تلك القرارات، بل إنها تنشر في وقت لاحق المحاضر الرسمية لتلك الاجتماعات بما يُلقي المزيد من الضوء على ما يتخذه القطاع الخاص من قرارات في المستقبل القريب. وتضع بعض تلك الجهات معايير محددة لعملها - كأن تعمل على عدم زيادة معدل التضخم عن 2% - وبالتالي تسهل على القطاع الخاص التخطيط المسبق لأنشطته. إن من المسلم به في عالم الاقتصاد أن يمر النشاط الاقتصادي في دورات انتعاش وتباطؤ وركود، وأن ترتفع معدلات التضخم أوتنخفض حسب المرحلة التي يمر بها الاقتصاد. وليس من المستغرب بالتالي أن ينكمش نشاط القطاع الخاص في قطر بعد أن نما في فترات سابقة بمعدلات مرتفعة. وإذا تقبلنا هذا الأمر على أنه طبيعي ومعتاد، فإننا سنستطيع مواجهته بالقرارات اللازمة في الوقت المناسب.
إن عدم وضوح السياسات يجعل أصحاب الأعمال والمستثمرين في حيرة مما قد يحدث في المستقبل، ويعجز الاقتصاديون عن إعطاء تنبؤات أكثر دقة عن أسعار الأراضي واتجاهات أسعار الأسهم ، ومستوى الطلب المحلي على السلع والخدمات المختلفة. ومن هنا فإنني أدعو إلى الإرتقاء بمستويات الشفافية والإفصاح فيما يتم اتخاذه من قرارات رسمية سواء تعلق الأمر بالقرارات المالية التي تصدر عن وزارة الاقتصاد والمالية، أو النقدية التي تصدر عن مصرف قطر المركزي. كما أن من الضروري نشر البيانات التي تصدر عن جهاز الإحصاء - وخاصة المتصلة بمعدل التضخم، أو بيانات الناتج المحلي الإجمالي - بحيث تكون مقترنة بدرجة أكبر من الإفصاح والشرح والتفصيل.