الحاجة إلى مخططين ماليين ومستشاري استثمار يتعاملون مع الأفراد بشكل حصري

07/08/2010 4
ماجد الدعجاني

يوجد في الولايات المتحدة أكثر من 170 ألف مخطط مالي مؤهل يحملون شهادة CFP وهي شهادة ذات سمعة قوية يتطلب الحصول عليها اجتياز خمس أو ست مواد تشمل مواد تتعلّق بالاستثمار والتقاعد والضرائب والإرث والتأمين. هؤلاء المخططون الماليون في الغالب يمارسون عملهم عن طريق أقسام التخطيط المالي في المؤسسات المالية أو في مكاتب خاصة بهم، حيث يفتح الواحد أو الاثنان أو العدد القليل منهم مكتباً ويوظفون مساعدين وسكرتاريا ويبدأون في تسويق خدماتهم مقابل رسوم يدفعها العميل أو عمولات من الجهات الاستثمارية التي يوجّهون عملاءهم لها (مع التضارب في المصالح بالنسبة للجزء الأخير لمن يعرف الصناعة).

منذ حوالي ثلاث سنوات، حين كنت أعمل في قسم تمويل الشركات (المقصود به هنا تحليل الشركات وطرحها في السوق الأولية) في إحدى الشركات الاستثمارية في الرياض تلقيت اتصالين من سيّدتين تطلبان النصح في مجال الأسهم. الأولى لديها مبلغ 50,000 ريال واعتذرت منها مباشرة وقلت لها أن الشركة لو قبلتها كعملية فإنها ستضطر لدفع أجر كبير لدراسة موضوعها، قد يصل لعشرات الآلاف، ولم أستطع أن أقدم لها أي نصيحة حتى ينتج عنها أي مطالبة قانونية، سواءً ضدي أو ضد الشركة التي أعمل بها. أما الثانية، فقضيّتها بسيطة. كانت تملك 1.6 مليون ريال، ونظراً لنصائح أشخاص غير مسئولين يعملون على الإشاعات المتداولة وينصحونها بشراء وبيع أسهم لا تعرفها ولا يستطيعون تقييمها بشكل علمي، خسرت المسكينة نصف رأس مالها وكان لديها 800 ألف ريال عندما اتصلت بي تريد النصيحة لاستعادة ما خسرته. لاحظ أن هدفها الآن تغيّر من الربح إلى استعادة تحويشة العمر التي جمّعتها بالعمل والتوفير وتبخّر نصفها في سوق الأسهم. لكن المضحك في الأمر أنها أرادت مستشاراً له علاقة بـ"هوامير" السوق يعطيها نصائح محدّدة بشراء أو بيع أسهم معينة في أوقات محدّدة. بمعنى أنها تريد طريقاً مختصراً لاستعادة رأسمالها، وأنا متأكد أنها لو وجدت مثل هذا الطريق فلن تتوقف حتى بعد استعادة رأسمالها وسيطغى عليها الجشع وستستمر في تحقيق الأرباح الناتجة عن التعامل غير الشرعي المبني على معلومات داخلية أو على تعاملات مخالفة لأنظمة السوق والشرائع السماوية والأخلاق  من عمليات النجش والبيع والشراء الوهمي وبث الإشاعات للتأثير على أسعار الأسهم. المهم في الأمر أنني قلت لها أنني لا أمانع في التعامل معها، ولا أظن الشركة التي أعمل بها سترفض 20 أو 30 ألف ريال دخل من دراسة وضع مثل هذه العميلة لأسبوع من الزمان. إلا أنني حذّرتها من أن النصيحة التي سأقدمها أنا أو أي مستشار مالي مرخّص ومؤهل ستكون مبنيّةً على الأسس العلمية والمعايير النظامية التي تحكم هذه الصناعة، فقالت لي أنها خاطبت أكثر من مستشار مرخّص من الهيئة - وهذه بادرة حسنة تشكر عليها - ولكنّهم جميعاً قالوا لها مثل ما قلت لها أنا، وقالت لي بالحرف الواحد: أريد شخصاً يقول لي "اشتري هذا السهم وبيعي هذا السهم" بدون أي تفاصيل أخرى، فاعتذرت منها وودّعتها وأنهيت المكالمة.

هذه المقدّمة الطويلة نوعاً ما ضرورية لتوضيح ما أردت أن أعرضه وهو أن هناك سوق لانهائية للشباب والفتيات المؤهلين في مجال التخطيط المالي، خاصة من يحملون درجات متخصّصة في المالية والمحاسبة والإحصاء والرياضيات والاقتصاد والتخصصات الفرعية  والذين يحصلون على تدريب مكثّف في المجال الاستثماري وعلى الشهادات المتخصصة مثل شهادة CFP المذكورة سابقاً والتي يمنحها مجلس المخططين الماليين المعتمدين في الولايات المتحدة أو شهادة "مخطط مالي شخصي معتمد" CPFP التي يمنحها المعهد المصرفي التابع لمؤسسة النقد بعد فترة من الدراسة والتطبيق تستمر حوالي 8 أشهر وهي فترة مقاربة للفترة اللازمة لدراسة منهج CFP والاستعداد لاختباراته.

لو اجتمع مثلاً مئة من الشباب والفتيات المؤهلين وذوي الخبرات المتعددة في نفس المجال وأسسوا شركة مساهمة برأسمال 25 مليون ريال مثلاً يدفع كل واحد منهم مثلاً ربع مليون ويضعون خطة إستراتيجية لفتح ثلاثين إلى أربعين فرع في المجمّعات التجارية، مع تجهيز كل النماذج والإجراءات المطلوبة لكل منتج يقدّمونه ثم يطلقون خدماتهم مع حملة تسويقية مناسبة، فإنهم - من وجهة نظري - سيحققون مكاسب لا تقارن مقابل تقديم خدمة غاية في الأهمية لمجتمع تكاد تنعدم فيه خدمة التخطيط المالي الموجّه للطبقة المتوسطة.

من الخدمات التي يمكن لهذه الشركة مثلاً تقديمها لعملائها خدمة التوفير لتعليم الأبناء. فمثلاً شخص لديه طفل عمره سنة ويريد أن يضمن له حين يبلغ الثامنة عشرة - أي بعد سبعة عشر عاماً - أن يدخل إلى جامعة راقية، بافتراض أن المنح الدراسية المقدّمة من الدولة الآن (برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي) والذي لم يكن متاحاً لجيلنا في بداية التسعينيات، ربما لن يكون متاحاً بعد سبعة عشر عاماً.

هنا يأتي دور المخطط المالي في دراسة وضع العائلة المالي، مصادر دخلهم، مصاريفهم الدائمة، ما الضروري منها وما الذي يمكن الاستغناء عنه أو تقليله أو تأجليه، وكم المبلغ الذي يستطيع هذا الأب أن يوفّره شهرياً أو سنوياً لابنه، وما أفضل قناة لاستثمار هذا المبلغ  بحيث يتجمّع مبلغ مناسب في نهاية فترة الاستثمار يمكن الصرف منه بشكل تدريجي طوال مدة الدراسة الجامعية.

كون الأسهم في المدى البعيد تحقق أفضل عائد على رأس المال المستثمر بين جميع الأصول الاستثمارية (مثل العقار والسلع والعملات والمعادن الثمينة والمشتقات وغيرها) فسيكون من ضمن مهام المخطط المالي اختيار أفضل الأسهم ذات التاريخ الجيد مع تكوين محفظة متنوّعة من حيث الصناعات والمناطق الجغرافية، فمثلاً قد يقترح المخطط المالي على العميل محفظة بها 30 سهماً في أسواق السعودية - دبي – أبو ظبي - لندن - نيويورك - طوكيو. يتوجّب على المخطط المالي هنا تقديم توقّعاته لأداء المحفظة خلال فترة الاستثمار مع نسبة المخاطرة المتعلّقة بالمحفظة.

كمثال بسيط لو فرضنا أنه بعد أخذ التضخم العام في الأسعار والتضخّم الخاص برسوم التعليم في الاعتبار ووجد المخطّط المالي أنه يتوّجب على الأب توفير 200 ألف ريال لتعليم ابنه في جامعة أهلية محلية أو أجنبية لمدة أربع سنوات على أن يكون هذا المبلغ جاهزاً بعد سبعة عشر عاماً وكان معدّل العائد على الاستثمار في الأسهم يبلغ 11% سنوياً فسيفاجأ الأب أن كل ما عليه توفيره واستثماره بشكل شهري هو مبلغ تافه لا يبلغ 440 ريالاً.

هل يمكن للفرد العادي أن يتصوّر أن مبلغ 440 ريالاً في الشهر سيصل إلى 200 ألف ريال بعد 17 سنة فقط؟ نعم لأن الأرباح يعاد استثمارها بشكل شهري أي لمدة 204 شهر. كما أن معدّل 11% الذي قد يستخف به الكثير منّا قريب من معدّل العائد على الخمسمائة سهم في مؤشر S&P لأكثر من أربعين سنة.

لو أخذ الواحد منّاً العائد على أي مؤشر أو سهم أو صندوق استثماري غير نشط خلال العشرين سنة السابقة في سوق الأسهم السعودية فسيصل إلى نتائج مقاربة.

هذه الثقافة الاستثمارية هي التي نحتاج إلى نشرها بين أفراد المجتمع، وهي التي ستساعد الكثير من العائلات على تأمين مستقبل أبناءهم التعليمي، خاصّة أن التخطيط للتقاعد - والذي يتم بشكل فردي في أميركا عن طريق حسابات IRAs وغيرها - تكفّلت به الدولة في المملكة، فيتم اقتطاع جزء محدد من راتب الموظف الحكومي ليضح في مؤسسة التقاعد، ويتم اقتطاع جزء من راتب موظف القطاع الخاص السعودي ليضح في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، وهاتان المؤسستان الحكوميتان عبارة عند مدراء استثمار ولا يملكون تلك المليارات التي تضخ سنوياً في أيديهم، بل هي ملك للموظفين الذين يدفعونها مقابل شيئين فقط، هما ضمان معاش تقاعدي عن بلوغ السن القانوني وضمان تعويض ومعاش تقاعدي عند الإصابة على رأس العمل.

مشروع مثل شركة متخصصة للتخطيط المالي للعائلات والأفراد من الطبقة المتوسطة بحاجة لدعم مالي من المستثمرين ولدعم تدريبي ومالي ورقابي من الجهات الحكومية ولحماس وتطلّعات الشباب والفتيات الذين يستمتعون بتخطيط الميزانيات الأسرية ومساعدة السيدات الراغبات في الاستثمار في العقارات مثلاُ بتوفير جهات محترفة لتقييم العقارات ومكاتب محاماة لدراسة الوثائق ودور المستشار المالي في كيفية تمويل عملية الشراء والعائد المتوقّع من الإيجار والتنسيق مع الجهات الأخرى المذكورة سابقاً وغيرها مثل مكاتب إدارة العقارات المتخصصة. فالمستشار المالي هنا مستشار مؤتمن يمثّل مصلحة عمليه تجاه الجهات الأخرى ويستحق أجره مقابل تعبه.

أتمنّى أن نرى خلال العقد القادم 2011-2020 موجه من المكاتب المتخصّصة عالية الحرفية في مجال التخطيط المالي، هدفها الأسمى مساعدة العائلات في إدارة ثرواتهم والتخلّص من حبائل البنوك التجارية التي تورّطهم فيها مثل بطاقات الائتمان ذات الرسوم المخفية والتي تتراكم بسرعة حتى يعجز المرء عن دفع الفوائد لوحدها ويدور في دوامة لا تنتهي من الديون.