موضوع البطالة الشائك والذي حمل تفاعلاً كبيراً من قبل الكثيرين بعد صدور بيانات مصلحة الإحصاءات العامة الأسبوع الماضي حاملاً مفاجأة برقمه الكبير عند 10.5 في المائة، وتفاعلاً مع ما وردني من ردود فعل على مقالي (وحدة بوحدة يا وزارة العمل)، ظهرت قصص غير متوقعة عن عاطلين يحملون مؤهلات عالية بل ويحتاجها سوق العمل بتعطش كبير.
فبعضهم يحمل شهادة الماجستير بالمحاسبة من جامعات غربية ومضى على عودتهم سنة كاملة دون الحصول على عمل، هذا بخلاف شهادات في المجال الطبي خصوصاً التخصصات الفنية الذي يعد من أكثر القطاعات إشغالاً بالوافدين، وينمو الطلب على الكوادر البشرية فيه سنوياً بنسب كبيرة نظير ارتفاع الحاجة للخدمات الصحية، ولكن أغرب هذه القصص تتمثل في قيام إحدى المنشآت الاقتصادية الخاصة الكبيرة بابتعاث وافد من جنسية عربية يعمل لديها للدراسة في أمريكا على حسابها، بينما رفضت طلباً مماثلاً لموظفها السعودي الذي اضطر لتقديم استقالته كي يكمل دراسته على حسابه، على أمل أن يكون له أولوية في العودة للعمل لديهم بعد إنهاء دراسته، وإذا ما صدقت هذه الرواية بكل تفاصيلها فهي تمثل غيبوبة جزء كبير من القطاع الخاص عن أهمية توظيف السعوديين وإعطائهم الأولوية عند حاجتهم للتوظيف.
وبعملية حسابية بسيطة عن الأثر الإيجابي الذي سيعكسه توظيف هذه الطاقات المعطلة والتي قدّر عددها بقرابة 450 ألف شاب وشابة، فلو تم تقدير متوسط الرواتب التي سيتحصلون عليها عند 4000 ريال، فإنّ إجمالي تكلفتهم السنوية سيصل لقرابة 25 مليار ريال، ولكن إنفاقهم لهذه الأموال داخل الاقتصاد السعودي سيرفع الطلب على السلع والخدمات وسيضيف من خلال تدوير هذه المبالغ لأربعة مرات قرابة 100 مليار ريال للناتج الوطني الإجمالي، هذا بخلاف انخفاض حجم الحوالات للخارج، مع الاعتماد على الكوادر الوطنية وأيضاً انعكاس ذلك على ضخ استثمارات في مختلف القطاعات العقارية وغيرها، مما يسهم بفتح المزيد من الوظائف وجذب رؤوس أموال للسوق المحلي، كما سيمتد بتأثيراته إلى السوق المالية من خلال دخول مستثمرين جدد فيه وزيادة السيولة المتجهة له، مع التوسع الذي يجري الآن بزيادة عدد الشركات المدرجة فيه والمساهمة في قيام مشاريع، ستضيف قيمة كبيرة للاقتصاد وطاقته الاستيعابية.
كما لابد من التركيز على جانب مهم أيضاً، فبقدر ما يلعب ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي دوراً مؤثراً بالنمو الاقتصادي كمحفز إضافي لعجلة النمو، فإنّ بقاء شريحة مهمة من المتعلمين والمهنيين خارج دائرة الاقتصاد يؤدي لفقدانهم مهاراتهم التي تعلّموها وسينسون جزءاً كبيراً مما تعلّموه، وبالتالي تصبح هذه الطاقات التي أنفق على تأهيلها مبالغ طائلة من الحكومة من خلال الجامعات والمعاهد والمدارس، خسارة كبيرة من خلال غيابهم عن دورة الاقتصاد الحالية، يضاف ذلك للعبء المادي والنفسي الذي تعانيه أسرهم حيال بقائهم دون عمل، وانعكاسه المادي والمعنوي والاجتماعي عليهم، يضاف لها ما تفرزه البطالة بأي مجتمع من منحرفين يقترفون الجرائم التي تتسبب بخسائر عامة وخاصة تشكل عبئاً كبيراً على أي دولة.
البطالة في المملكة تبدو وكأنها السهل الممتنع، حيرة بنسبها العالية الجميع في ظل تنامي حجم الاستقدام السنوي للوافدين ومئات الآلاف من الفرص الوظيفية التي يوجدها الاقتصاد من خلال السياسة المالية التوسعية، غير أنّ عدم استيعاب القطاع الخاص هذه الطاقات يُعَد أمراً مستغرباً، فهو يمثل فجوة بين جزء أساسي من فوائد هذه التوسع الإنفاقي واعتماده على القطاع الخاص بتنفيذ هذه المشاريع الجبارة، وبالتالي تتم خسارة الجزء الرئيسي من توجهات الحكومة المتمثل، ليس فقط بفتح الفرص الوظيفية للشباب السعودي، بل حتى في الاعتماد مستقبلاً على هؤلاء الشباب بالحفاظ على المكتسبات الاقتصادية وتشغيلها وتنميتها وتطويرها من خلال مشاركتهم الفاعلة ببنائها.