جاءني هذا السؤال من الأخ "وفائي" تعليقا على مقال "ما هو نظام الربط بسلة العملات"، يقول: السلام عليكم،لكم جزيل الشكر على العلم والمعرفة فإنها حقا قوة ونور. سؤالي أستاذي العزيز، ما هو تعويم العملة؟ ونظرا لأن المصطلح شائع جدا، قد آثرت ان أرد على السؤال بمقال حتى تعم الفائدة لجميع القراء، ولتبسيط الشرح سوف أفترض في المقال ان العملات الأجنبية هي الدولار، والعملة المحلية هي الدينار الكويتي، وذلك لتبسيط العرض في المقال.
يعادل تعويم العملة ما يمكن ان نسميه نظام معدل الصرف الحر Free or flexible exchange rate system، وهو نظام بمقتضاه يقوم البنك المركزي للدولة بترك معدل صرف (تبادل) عملته المحلية (الدينار) بالعملة الأجنبية (الدولار) يتحدد وفقا لاتجاهات الطلب والعرض على الدولار، فإذا ما ازداد الطلب على الدولار في سوق النقد الأجنبي (سوق الدولار)، فإن معدل صرف الدولار يميل نحو الارتفاع، وإذا ما انخفض الطلب على الدولار فإن معدل صرفه يميل نحو الانخفاض.
معنى ذلك ان معدل صرف الدولار سوف يخضع لموجات الطلب عليها والعرض منها، ولذلك أطلق على هذا النظام تعويم العملة Floating، أي ترك قيمة العملة عائمة ترتفع وتنخفض مع موجات الطلب والعرض.
ولكن لكي نفهم هذه التعريف بصورة أفضل فإن الأمر يقتضي أن نتعرف أولا على ما هية الطلب على الدولار والعرض من الدولار. الطلب على الدولار (عرض الدينار لاستبداله بالدولار، أو طلب المقيمين في الدولة على الدولار) لا يعتبر طلبا مستقلا بذاته، بمعنى آخر فإننا لا نطلب الدولار لأننا نرغب في الاحتفاظ بالدولار بذاته كورقة خضراء، ولكن لأننا سنستخدم الدولار في إجراء بعض المبادلات التي لا يمكن ان نقوم بها سوى باستخدام الدولار، معنى ذلك ان الطلب على الدولار هو طلب مشتق من الطلب على هذه المعاملات، ولكن ما هي المعاملات التي نحتاج إلى القيام بها ونطلب الدولار من اجلها؟ الإجابة هي أننا نحن نحتاج إلى الدولار لكي نستورد به السلع التي تباع بالدولار من الخارج مثل السيارات، أو لكي ندفع به قيمة الخدمات التي تقدم إلينا من الخارج بالدولار، مثل خدمات السياحة أو التعليم في الخارج، كما نحتاج للدولار لكي نشتري به أصولا استثمارية في الخارج مقومة بالدولار (سواء أكانت أصولا مالية، أو حقيقية)، بما في ذلك المودعات في البنوك بالدولار، وكذلك نحتاج إلى الدولار عندما نرغب في ان نقدم مساعدات أو منح إلى المقيمين في الخارج بالدولار. هذه هي مصادر الطلب على العملات الأجنبية.
أما مصادر العرض من الدولار (طلب الأجانب على الدينار الكويتي) فهي لشراء صادراتنا من السلع، مثل اليوريا، أو لدفع قيمة الخدمات التي تقدم للأجانب بالدينار الكويتي مثل الإقامة في الفنادق الكويتية، أو للاستثمار بواسطة الأجانب من خلال شراء الأصول المحلية في الكويت (سواء مالية أو حقيقية مرة أخرى) بما في ذلك الإيداع بالدينار الكويتي في البنوك المحلية، وأخيرا إذا كانت بعض الجهات، مثل الهيئات الخيرية، في حاجة إلى مساعدة مانحين يتعاملون بالدولار، فإن هؤلاء يقومون بعرض الدولار ليتم تحويله إلى الدينار الكويتي لتقديم تلك المساعدات إلى الجهات التي ستتلقاها.
وفي سوق النقد الأجنبي (سوق الدولار المحلي) تتجمع مصادر الطلب على الدولار لتشكل اجمالي الطلب عليه، كما تتجمع مصادر العرض من الدولار لتشكل اجمالي العرض منه، وبناءا على مستويات الطلب على الدولار والعرض من الدولار يتحدد معدل صرف الدولار بالدينار.
فإذا كان الطلب على الدولار أكبر من العرض منه، فإن معدل صرف الدولار يرتفع (Appreciation)، مثال إذا كان الدولار يباع بـ 300 فلس، وازداد الطلب عليه فقد يرتفع معدل صرفه، على سبيل المثال، إلى 305 فلوس، وفي هذه الحالة نقول أن قيمة الدولار ارتفعت (أي أن قيمة الدينار انخفضت)، لأننا أصبحنا ندفع 305 فلوس في مقابل شراء الدولار بعد أن كنا ندفع 300 فلسا فقط، وفي مثل هذه الحالة يقل طلبنا على الواردات من السلع التي تباع بالدولار، بينما يزيد طلب الولايات المتحدة على صادراتنا إليها، ويتحسن بالتالي وضع ميزاننا التجاري (الحساب الذي تسجل فيه قيمة السلع التي يتم تصديرها (الصادرات)، والسلع التي يتم استيرادها (الواردات)).
أما إذا كان الطلب على الدولار أقل من العرض منه في سوق الدولار المحلي، فان معدل صرف الدولار ينخفض (Depreciation)، على سبيل المثال من 290 فلس إلى 285 فلسا، وفي هذه الحالة فإن انخفاض معدل صرف الدولار بالدينار يعني أن قيمة الدولار انخفضت (ارتفاع قيمة الدينار)، وهو ما سيؤدي إلى زيادة الطلب على السلع التي يبيعها الأجانب بالدولار (وارداتنا) لأنها أصبحت ارخص بالنسبة لنا، والعكس بالنسبة للسلع التي نبيعها للأجانب بالدولار (صادراتنا)، ويسوء بالتالي وضع ميزان المدفوعات.
ولا يوجد دولة في العالم تترك عملتها المحلية معومة على نحو مطلق، نظرا لخطورة النتائج التي تترتب على تغير قيمة الدولار، ولذلك فان معظم عمليات التعويم التي تتم تكون على نحو يتم إدارته من قبل البنك المركزي، ويطلق على هذه الصورة من التعويم، "التعويم المدار Managed floating"، وفي ظل التعويم المدار يضع البنك المركزي ما يمكن ان نطلق عليه السعر المركزي للدولار (مثلا 300 فلس للدولار)،ثم يقوم بتحديد حد أقصى لمعدل صرف الدولار (سقف، مثلا 320 فلسا للدولار)، وحدا أدنى لمعدل صرف الدولار (أرضية، مثلا 285 فلسا للدولار)، على أن يترك الدولار معوما بين هذين الحدين الأقصى والأدنى للتقلب، حتى إذا ما اقترب معدل الصرف السوقي للدولار من الحد الأقصى أو تجاوزه، فان البنك المركزي يبدأ في التدخل في سوق النقد الأجنبي، إما من خلال بيع الدولار (لزيادة الكميات المعروضة منه) ومن ثم دفع معدل صرفه نحو الانخفاض، أو من خلال رفع معدل الفائدة على الدينار، فيزيد الطلب عليه من قبل الأجانب (لأغراض الإيداع) ويزيد بالتالي عرض الدولار، وكلا السياستين يؤديان إلى عودة معدل صرف الدولار إلى نطاق التعويم، كما يقل طلب المقيمين على الدولار (لأغراض الإيداع) فيبدأ معدل صرفه في الانخفاض.
والعكس في حالة اقتراب معدل صرف الدولار من الحد الأدنى لمعدل الصرف أو تجاوزه، حيث يقوم البنك المركزي بشراء الدولار، حتى يزيد الطلب عليه ويرتفع معدل صرفه، أو يقوم بتخفيض معدل الفائدة على الدينار الكويتي ليقلل الطلب عليه ويرتفع بالتالي معدل صرف الدولار.
ولكن ما الذي يدفع الطلب على الدولار نحو الارتفاع أو الانخفاض، وكذلك الأمر بالنسبة للعرض من الدولار؟ إن الإجابة على هذا السؤال سوف تجعلنا نفهم النظام بشكل كامل. هناك الكثير من العوامل المسئولة عن التغير في الطلب والعرض من الدولار، سوف نذكر منها 4 عوامل تؤدي إلى تغير الطلب والعرض من الدولار ومن ثم تغير قيمة الدولار بالارتفاع أو بالانخفاض، وهذه العوامل هي:
1. فروق معدلات التضخم بين الداخل والخارج، كقاعدة عامة إذا ارتفع معدل التضخم في الكويت عن معدل التضخم في الولايات المتحدة فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للدينار بالنسبة للدولار، ومن ثم انخفاض قيمة الدينار (ارتفاع معدل صرف الدولار)، أما إذا كان معدل التضخم في الكويت أقل من معدل التضخم في الولايات المتحدة، فإن القوة الشرائية للدينار سترتفع بالنسبة للدولار (انخفاض معدل صرف الدولار).
2. فروق معدل الفائدة بين الداخل والخارج، كقاعدة عامة، إذا ارتفع معدل الفائدة على الدينار بالنسبة لمعدل الفائدة على الدولار، فإن ذلك سيدفع المودعين إلى تحويل مدخراتهم بالدولار إلى الدينار لإيداعه في البنوك الكويتية للحصول على فوائد أعلى، وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدل صرف الدولار (ارتفاع قيمة الدينار)، والعكس إذا كان معدل الفائدة على الدولار أعلى من معدل الفائدة على الدينار فإن ذلك سيشجع المودعين بالدينار الكويتي على تحويل مودعاتهم إلى الدولار للاستفادة من معدل الفائدة المرتفع عليه، ويرتفع نتيجة لذلك معدل صرف الدولار (انخفاض قيمة الدينار). وتجدر الإشارة إلى ان معدلات الفائدة والتضخم بينهما ارتباطا كبيرا، بمعنى آخر، في حالة ارتفاع معدل التضخم فإن معدلات الفائدة الاسمية لا بد وان ترتفع لكي تعوض المودعين عن انخفاض القوة الشرائية لمودعاتهم، والعكس في حالة انخفاض معدل التضخم.
3. عجز أو فائض ميزان المدفوعات، ميزان المدفوعات هو حساب يتم فيه تسجيل قيمة السلع والخدمات التي يتم تصديرها إلى الخارج (الصادرات)، وقيمة السلع والخدمات التي يتم استيرادها من الخارج (الواردات). فإذا كانت الصادرات إلى الخارج (كمية الدولار التي يعرضها الأجانب في مقابل الصادرات) اكبر من الواردات من الخارج (كمية الدولارات التي يطلبها المواطنين لشراء السلع الأجنبية) يحدث فائض في ميزان المدفوعات (أي فائض في الكميات المعروضة من الدولار في سوق الدولار، وهو ما يخفض معدل صرف الدولار، والعكس إذا كانت الصادرات إلى الخارج (كمية الدولار التي يعرضها الأجانب في مقابل الصادرات) أقل من الواردات من الخارج (كمية الدولارات التي يطلبها المواطنين لشراء السلع الأجنبية) يحدث عجز في ميزان المدفوعات (أي نقص في الكميات المعروضة من الدولار في سوق الدولار)، وهو ما يرفع معدل صرف الدولار.
4. عدم الاستقرار السياسي، تتأثر قيمة العملة بالاستقرار السياسي من خلال المخاطر المصاحبة للاستثمار بهذه العملة، فإذا ارتفعت درجة عدم الاستقرار السياسي في دولة ما، مثل شيوع الإضرابات أو نشوب الحروب.. الخ، ترتفع مخاطر الاستثمار في هذه الدولة، وإذا لم يصاحب ذلك ارتفاع في علاوة المخاطرة في معدل العائد على الاستثمار، فإن الإقبال على الاستثمار في أصول هذه الدولة يقل (انخفاض عرض العملة الأجنبية)، بينما يزيد الطلب على الاستثمار في الأصول الأجنبية (زيادة الطلب على العملة الأجنبية) ومن ثم ترفع معدلات صرف العملة الأجنبية، والعكس.
excellent
شكرا د.محمد, بارك الله لك في علمك ووقت وولدك, فقد استفدت من معظم مقالاتك
عندما تكون العملة غير مثبتة بعملة اخرى كما هو الريال السعودي فان ارتفاع التضخم سوف يقود حتما لارتفاع الفائدة ........لذا ربما النقطة الاولى مما ذكرتم بحاجة إلى معالجة ......فمثلا حين كانت التضخم عند مستويات مرتفعة في مصر قبل حوالى عشر سنوات وكان الجنية يعني من عدم الاستقرار ارتفعت الفائدة على الجنية إلى ارقام فلكية ومن ثم كان هناك اتجاه للتحول للجنية للحصول على هذه الفوائد الضخمة والتي وصلت إلى رقمين عشريين ........أو ليس كذلك؟
أصبت كبد الحقيقة يادكتور الله يعطيك العافية بقولك .... " ....وتجدر الإشارة إلى ان معدلات الفائدة والتضخم بينهما ارتباطا كبيرا، بمعنى آخر، في حالة ارتفاع معدل التضخم فإن معدلات الفائدة الاسمية لا بد وان ترتفع لكي تعوض المودعين عن انخفاض القوة الشرائية لمودعاتهم، والعكس في حالة انخفاض معدل التضخم. ..." يعني الفائدة ليست زيادة حقيقة وبالتالي ليست ربا كما يتبادر لبعض البسطاء تلك الحقيقة التي تعاونت دول كثيرة لتغيبها محاولة لمنع الناس من اخذ الفائدة وبالتالي الحفاظ على مستويات منخفضة من التضخم وبالتالي رفع معدلات الاستثمار والادخار داخل كل دولة .... إذن تحريم الفائدة والادعاء بانها زيادة وسكوت الانظمة عن مثل هذه الفتاوي لانه كما اعتقد بان تحريم الفائدة يصب في مصلحة الدولة على حساب الافراد...فتصبح كانها ضريبة مستترة ومخفية وكانها ضريبة على الجميع أو ليس كذلك يادكتور؟ ...أتمنى ان اسمع ردا من سعادتكم على هذا الموضوع ...
لو طبقنا الاقتصاد الإسلامي لن يوجد انخفاض في القوة الشرائية وبالتالى ليس بحاجة لفوائد لتعويضك
شكرا للدكتور والقائمين، مادة خفيفة لكن مركزة.