أنهت مجموعة العشرين اجتماعها في تورنتو، وخرجت بصور تحمل دلالات مهمة، فبرز غياب قوة اقتصادية كبرى وحيدة في العالم كما كان سابقاً، ويظهر ذلك من خلال البيان الذي جعل كل جهة تعود بورقتها معها لتعمل عليها منفردة،فيما عمّ الخلاف نقاطا عامة فرز ضرورة تأجيلها إلى أجل غير مسمى كفرض ضريبة على البنوك والمعاملات المالية الدولية لها، ولم يتفقوا إلا على تخفيض الدعم المقدم للطاقة الذي سيصب في مصلحة الميزان التجاري لأمريكا مع العالم، وينعكس على حفظ هذه الثروة من النضوب السريع.
وبالعودة إلى النقطة الأولى فإن أمريكا عادت بمطالبتها للدول بتأجيل القيود على الإنفاق المالي الحكومي دون أن يكون هناك قرار واضح بشأن ذلك كما حدث بالقمم السابقة، بينما دول أوروبا تمسكت بضرورة خفض العجز بالميزانيات لتنفذه وحدها، أما الصين فعادت بورقة عملتها نظيفة من أي ملاحظات عليها، وكان القوى الثلاث الكبرى اتفقت على تأجيل المواجهة؛ لأن الجميع غير قادر على تحمل تبعاتها،فما بين حذر كالصين، ومنهك كأوروبا وأمريكا بقيت الأجندة شبه معطلة، ولم تخرج سوى ببيان يظهر قدرا من الهيبة لتلك القوى حتى تبقى في مكان يحظى بالاحترام دوليا.
ولم يفت الدول ذات الاقتصاديات الناشئة كالبرازيل والهند وغيرهما التعليق حول ذلك بأن هذه القوى لم تعد تنظر إلا إلى الطرق المؤدية لمصالحها في نهاية المطاف دون الاعتبار للأضرار المحتملة على العالم ككل من خلال إضعاف تنافسية تلك الاقتصاديات أمام صادرات أوروبا من جهة وتقييد الإنفاق الذي سيضر بالطلب على سلع تلك الدول الناشئة المعتمدة على التصدير بنسب تفوق اعتمادها على المستهلك المحلي.
ومن الواضح الآن أن القوى الكبرى اقتصاديا تقود العالم نحو التعافي، وإذا كان ذلك ميزة إيجابية بمنظارها العام؛ حيث يفترض أن تكون التعددية سمة دولية، فإن الظروف الراهنة للاقتصاد الدولي الهش تتطلب إيمانا بهذا التنوع، ولكنّ هناك اتفاقا على السير بالاتجاه الصحيح دوليا وليس تحديد هذا الاتجاه من منظار كل دولة أو تكتل على حدة.
وفي خضم هذه القراءات برزت نقطة في غاية الأهمية، هي غياب الحديث عن الدول الفقيرة التي تشكّل في مجموعها أكثر من 180 دولة تمثل قرابة 20 بالمائة من اقتصاد العالم؛ فلم تلتفت تلك القوى الكبرى للحديث عما سيواجهه فقراء العالم مع التباين بالسياسات الاقتصادية؛ حيث أصبح تخفيض الدعم المقدم لها من أوروبا تحديدا أمرا مؤكدا.
ولم يدخل صوت هذه الدول قاعة الاجتماعات إلا من خلال الكلمة التي ألقاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من خلال تأكيده الاهتمام بهم، وأن المملكة تقوم بواجبها تجاههم من خلال برامج الدعم المقدمة من صناديق التنمية، كما طالب - حفظه الله - بأن تعطى هذه الدول ميزة تنافسية أمام قوة الدعم المقدم للسلع المنتجة بالاقتصاديات الكبرى؛ وذلك لمساعدتها على مواجهة الأزمة وتحقيق معدلات نمو تكفل لها التقدم اقتصاديا واجتماعيا.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: ماذا لدى الدول العربية من رؤى حيال هذه التطورات الخطيرة اليوم؟ فلا يوجد تحرك حقيقي فيما بينها وقراءة تشرح الآثار المحتملة في المستقبل عليها بعد هذه الانقسامات والاختلافات الواضحة بين كبار العالم، وإذا استثنينا دول الخليج من التأثيرات السلبية نظير ملاءتها المالية الكبيرة فماذا عن البقية؟
حيث ترتفع المديونيات، ولا توجد خطط لخفض العجز بالميزانيات ذات مدى زمني محدد أو تسريع بالأنظمة والقوانين المحفزة على دفع عجلة الاستثمار وزيادة الإنتاجية فيها.. والأهم هو تفعيل كل ما سبق من اتفاقات على إيجاد التكامل الاقتصادي ومحاولة بناء تكتل عربي يستطيع مواجهة تأثيرات القوى الكبرى على منطقتنا؛ فلا يمكن البقاء لأي دولة في طابور انتظار المساعدات من الخارج لسد فجوات العجز المالي، ولا يمكن القول إن أي دولة تستطيع أن تواجه التحديات القادمة بمفردها؛ فهذه أوروبا تقدم مثالا واضحا على ذلك من خلال الاتفاق على المواجهة الجماعية لأزماتها.
إن الحاجة اليوم لاجتماعات مكثفة على الصعيد الاقتصادي في جامعة الدول العربية أصبح أمرا بديهيا لا بد من تحريكه، ليس من خلال القمم بل من خلال ورش عمل مفتوحة تسرع وتفعل كل ما من شأنه رفع وتيرة النشاط الاقتصادي العربي بما يمكن من هضم الآثار السلبية وتخفيف حدتها على العالم العربي بمواجهة صريحة لا تحتمل أي تردد في هذا الاتجاه.
فالعالم يسير نحو خيارات صعبة اقتصاديا؛ فبقدر ما ستحرص القوى الكبرى على التمسك بالحوار المفتوح بينها من خلال قمة العشرين وإعطاء صورة تكرس أن هناك توافقا على التعاون، لكنها في حقيقة الأمر تتحرك على أرض الواقع أيضا من خلال مكاسب وطنية لا تصنع توازنا دوليا يؤدي إلى تبادل المنافع بين الجميع، وأن تكون بقية الدول في العالم مستفيدة من ذلك، بل إن السير يأتي الآن قدما باتجاه من ينتصر أخيرا ويجلس على كرسي البارونية الرئيس في سدة الاقتصاد العالمي؛ حيث يرى الآخرون أن أمريكا تعبت وأتعبت من الجلوس عليه مطولا، ولا بد من آخر يستغل الفرصة لأن يكون هو البديل، وما بين كل ذلك فإن للعرب فرصة تاريخية بأن يضعوا بتوافقهم وتكتلهم الاقتصادي قدما قوية في هذه المعادلة من خلال مساحات جغرافية شاسعة وثروات كبيرة ولغة ومصير مشترك وعدد كبير من السكان.. تسمح كلها مع توافر رأس المال بتحقيق أعلى فرص النجاح للنجاة من الأزمة والوصول إلى المكان الصحيح بتركيبة الاقتصاد العالمي التي تتحضر لترى النور من الآن.