مراحل ما قبل الأزمة ليست كما بعدها، وبمضي أكثر من عام ونصف العام على أول اجتماع لمجموعة العشرين على مستوى القادة والذي التأم حينها في واشنطن لا يبدو المشهد الحالي كما كان حينها، ففي ذلك الوقت كان العالم يحاول تجميع كل قواه لاتخاذ موقف موحد حيال الأزمة المالية، وبأنها ستمس الجميع فلابد من الاقتناع بضرورة العمل المشترك، لكن في كندا سيكون الموقف مختلفاً خصوصاً أن ما تم في لندن العام الماضي من اتخاذ الخطوات العملية للتصدي للأزمة يوضع اليوم على الطاولة لمناقشته من ناحية آثاره الحقيقية، وهل فعلاً كان تحركاً صحيحاً، وما هي الخطوات القادمة لتدارك التداعيات.
فاليوم تحمل الأجندة اختلافات واتهامات ونوعاً مختلفاً من التداعيات التي تحتاج إلى حلول ترتكز على الاعتراف بأنها فعلاً أزمات مستقلة وليست تابعة للأزمة المالية المعروفة، فمطالبة أميركا دول أوروبا تحديداً بتأجيل العلاج المالي لديونها السيادية حتى لا يؤثر ذلك على تعافي الاقتصاد العالمي لا تلقى قبولاً لدى المزاج الأوروبي، فالألمان يرون أن المعالجة المالية جزء رئيس من الحل، وذلك لأنهم ينظرون إلى الأزمة بأنها ستنتهي بينما تقليص العجز والمديونية سيسهم بدعم النمو الاقتصادي على المدى المتوسط والبعيد، كونه سيعيد الثقة للأسواق وسيعطي مجالاً لتلك الدول كي تتحرك بإنفاق أكبر بعد أن تصحح الأمور المالية لديهم، فهم لا يريدون حلولاً مؤقتة تفقدهم القدرة على التحرك مستقبلاً وبالتالي فإن تقييمهم بأن الأزمة تمت السيطرة عليها وأن التداعيات التي ستؤثر بها من تباطؤ بالنمو أو ركود نسبي فيه يمكن تحملها حتى تستعيد الدول قوتها وعافيتها وتتمكن من رفع وتيرة الإنفاق المحلي التي ستنعكس إيجاباً على العالم.
والأمريكيون يرون بأن العالم أصبح أقل دعماً لنمو اقتصادهم وبالتالي حافظ البنك الفيدرالي على أسعار الفائدة متدنية وإلى أجل غير مسمى، وفي داخل أمريكا ينتقد صناع وول ستريت إدارة أوباما بأنها ستحول أضواء الشارع المالي الشهير نحو الشرق الأقصى، وبهذا تكون التطورات بدأت تتحول إلى خلافات داخل الدول المعنية حول طبيعة التعاطي مع الأزمة مما يعني أن تقييم الأداء الحكومي الأمريكي أصبح مثار جدل حول صحته ودقته بالفترة الماضية، خصوصاً أن ديونها السيادية لا تقل صعوبة عن أوروبا.
أما الصين فتأتي لكندا مرتاحة من الضغط الذي واجهته قبل قترة حول سعر صرف عملتها بعد إعلانها عن اتخاذ خطوات تسهم بتحرك السعر إلى مستويات عادلة لقيمته الاقتصادية وسط ترحيب أمريكي أوروبي مما يعني أنها ستكون في موقع الهجوم بدلاً من الدفاع -إن صح التعبير- فهي ستنتقد وتنصح في كل نقاط الأجندة مستبعدة بخطوتها تلك وجود أي نقطة تتعلق بها، وبالتالي مجمل النقاش سيكون عن الديون السيادية والجدل القائم حولها، وتتشارك معها بالموقف بقية الدول النامية التي لا يوجد حول أدائها أي ملاحظة.
وتبقى الدول المنتجة للنفط وعلى رأسها المملكة في أقوى المواقع، فهي قدمت كل ما تستطيع خدمة للاقتصاد العالمي من خلال استقرار أسعار الطاقة ولفترة طويلة جداً من عمر الأزمة، مما يعني أن موقفها أصبح قوياً كمؤثر في الاقتصاد العالمي من خلال المساهمة الإيجابية الفاعلة لنموه.
ولكن يبقى السؤال، هل ما بعد هذه القمة سيكون مشابهاً لما قبلها؟ فالرأسمالية اليوم تتفتت مبادئها الأساسية في قبضة الرأسماليين أنفسهم، والتحول نحو منظومة اقتصادية جديدة تقوم على مبدأ تأثير قوى متعددة أصبح حقيقة حتى لو وصلت التداعيات إلى تلك الدول فإنها أصبحت لاعباً مهماً بالاقتصاد الدولي ومحركاً له، وما يطلب من الصين حول عملتها دليل مؤكد على قوة التأثير القادم من كل الاتجاهات، وإذا كان البعض يروج من الآن لفكرة الاقتصاد الاجتماعي بأنه الحل وهناك من يقول إن الرأسمالية تعيش أزمة مؤقتة وستعود كما كانت، فإن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن الأذهان بأن الأخيرة لجأت إلى مبادئ اشتراكية في أسلوب معالجتها للأزمة وخالفت قواعد السوق الحر أيضاً بكثير من الممارسات، فهذه الأزمة أظهرت ضعف النفس البشرية عندما ترى المسألة معقدة فإنها تتخلى عن أشياء كثيرة لتخرج من عنق الزجاجة، وهذا دليل آخر يثبت أن أي نظام لا يحمل معه مفاتيح الحل للأزمات فهو مشوه بالفطرة، فلا يمكن القول أن فترات النمو والازدهار معبر عن صحة ماكينة الرأسمالية، فتبدل الظروف يوضح مدى قوتها، والمناخ اليوم لم يرحمها وكشف عوراتها، فتورنتو ستشهد نواة الانتقال إلى تعدد بالمذاهب الاقتصادية والسياسية على حد سواء، فكما يقال إن الرأسمالية السياسة هي الأساس فيها، والاشتراكية الاقتصاد أساسها، والأخيرة أصبحت في سجل الوفيات، والأولى لا تبدو بأحسن حال منها، فإننا على موعد مع نظرية جديدة تتحضر وتطبخ على مسرح العالم وبمشاركة من الجميع حتى يكون هناك منطق وعدل يفرض نفسه لكي تكون كل الأمم مساهمة ومستفيدة منها.