ترتب على إطلاق اليورو وتحقيق هذه العملة للمزيد من النجاح في مقابل الدولار الأمريكي (بسبب المشكلات التي واجهت الأخير بعد إطلاق اليورو) إلى التفكير بجدية في طرح موضوع إطلاق عملة خليجية موحدة من جانب دول المجلس، وبالفعل تم في قمة مسقط في ديسمبر 2001 إقرار جدولا زمنيا لربط معدلات صرف عملات دول مجلس التعاون بالدولار الأمريكي كخطوة أولى نحو إنشاء اتحاد نقدي، وفي عام 2004 تم إنشاء وحدة متخصصة لمشروع الاتحاد النقدي تنفيذاً لتوجيه المجلس الأعلى في قمة الدوحة ديسمبر 2002، كذلك تم اقتراح معايير التقارب اللازمة لقيام الاتحاد النقدي في عام 2005، والتي بمقتضاها يتم وضع أسس تحديد أهلية الدول الأعضاء للانضمام إلى العملة الموحدة، وقد كانت معايير التقارب هي نفس المعايير التي تبنتها دول الاتحاد النقدي الأوروبي بمقتضى معاهدة ماسترخت.
غير أن التطبيق العملي بعد ذلك لمدى أهلية الدول الأعضاء في الالتحاق بالاتحاد النقدي لم يتناول أي من هذه المعايير ودعيت الدول الأعضاء جميعا إلى الاتحاد النقدي بغض النظر عن مدى استيفاءاها لمعايير التقارب أم لا، وقد اتفقت دول المجلس على أن يتم إصدار العملة الخليجية الموحدة في موعد أقصاه يناير 2010.
كان من الواضح أن قرار إنشاء عملة موحدة يهدف إلى وضع المجلس على خطى الاتحاد الأوروبي، وبغض النظر عن طبيعة الدوافع التي تقف وراء تبني هذا المشروع من قبل الدول الأعضاء في المجلس، فانه من المعلوم انه من الناحية النظرية أنه توجد شروط لما يطلق عليه بمنطقة العملة المثلى، وأن إنشاء عملة موحدة دون توافر الشروط الأساسية لها قد يكون له آثارا سلبية على التكامل بأسره ويحمل قدرا كبيرا من المخاطر على المدى الطويل، خاصة وأن الدول الأعضاء سوف تتخلى عن عملاتها وسياساتها النقدية المحلية.
غير أن مشروع الاتحاد النقدي الخليجي ووجه ببعض العقبات نتيجة إعلان عمان عن عدم نيتها الانضمام إلى الاتحاد النقدي، على الأقل في المرحلة الحالية، كذلك وفور الإعلان عن اختيار موقع البنك المركزي الخليجي في الرياض، أعلنت الإمارات العربية المتحدة انسحابها من الاتحاد النقدي الخليجي، الأمر الذي فسر على أنه اعتراض على اختيار الرياض مكانا لإنشاء البنك المركزي الخليجي، بينما هي ترى أنها انسب موقع لهذه المؤسسة.
بانسحاب الإمارات العربية المتحدة كنا نتوقع ان تتعطل جهود إطلاق العملة الموحدة خاصة وأنها سوف تطلق بأربعة دول فقط، غير أن الذي حدث هو أن الدفع في سبيل إنشاء العملة الموحدة سار بشكل حثيث بعد ذلك، وخلافا لما عهدناه مسبقا في إطلاق مشروعات التعاون، تم بالفعل التوقيع على اتفاق الاتحاد النقدي في ديسمبر 2009 من قبل كل من البحرين والكويت (قبل حلول 2010) بحيث أصبحت الدول الأربع الأخرى أعضاء في الاتحاد النقدي الخليجي، بل وتم أيضا الإعلان عن إنشاء البنك المركزي الخليجي وتعيين محافظه، في خطوة اعتبرتها تسرعا في هذا الاتجاه وقفزا واضحا فوق معطيات الواقع التي لا يبرر إنشاء اتحاد نقدي أو إطلاق عملة موحدة، على الأقل في مرحليا.
عندما تعرضت اليونان لمصاعبها الاقتصادية المعروفة للجميع، وبدأ اليورو كعملة موحدة، يعاني من ضغوط الأوضاع المالية والاقتصادية في الدول المضطربة ماليا في أوروبا، وأخذ يفقد جانبا كبيرا من مكاسبه أمام الدولار، بدأنا نسمع عن المخاوف التي سبق أن حذرنا منها مسبقا بالنسبة لإطلاق العملة الخليجية الموحدة. هذا الأسبوع طالعتنا الصحف بتصريح لوزير خارجية دولة الكويت سمو الشيخ د. محمد الصباح يقول فيه ان أزمة اليورو أقنعت دول مجلس التعاون الخليجي بضرورة اخذ "وقفة" للتفكير قبل المضي قدما في مشروع العملة الخليجية الموحدة نظرا لوجود الكثير من الدروس التي يجب الاستفادة منها في هذه الأزمة، وأنه بعد هذه الوقفة والتعلم من دروس هذه الدراما اليونانية ستكون دول مجلس التعاون الخليجي في موقع أفضل لاستئناف الجهود المبذولة، وذلك للوصول إلى عملة خليجية موحدة بشكل أسرع مما سبق.
وشدد ان "هذه الوقفة لا تعني تأجيل العملة الخليجية الموحدة بل ان هدف هذه الوقفة هو التفكير"، واعتبر الشيخ محمد الصباح ان المضي قدما في مشروع العملة الخليجية الموحدة من دون دراسة تداعيات أزمة اليورو في أوروبا سيكون "تصرفا غير مسؤول" (موقع وزارة الخارجية لدولة الكويت الاثنين 24/5/2010).
كنت قد تناولت من قبل موضوع الاتحاد النقدي لدول مجلس التعاون ومشروع العملة الخليجية الموحدة، في ندوات وفي أبحاث علمية ومقالات صحفية وعلى مدونتي (مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون)، وفي كل مرة كنت أصل إلى نتيجة مؤداها ان احتمال إطلاق عملة خليجية ناجحة أمر تحيط به الكثير من الشكوك لأن الأرضية الاقتصادية التي سوف يتم في ظلها إطلاق هذه العملة تعاني من عدة أوجه للضعف تقتضي ضرورة التفكير بشكل جاد في الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على إصدار هذه العملة الموحدة، خصوصا، كما ذكرت مرارا وتكرارا، أننا سوف نستبدل عملات مستقرة وقوية بعملة يحيط بها الكثير من الشكوك.
في هذا المقال أركز على الخصائص الهيكلية لدول مجلس التعاون ومدى تأثيرها على تبني عملة موحدة لدول مجلس التعاون، ثم أتناول القضايا الأخرى المرتبطة بموضوع إنشاء العملة الخليجية الموحدة تباعا على التوالي.
من المعلوم أن دول مجلس التعاون تتصف بمجموعة من الخصائص الهيكلية التي تحد من قدرتها على أن تشكل اتحادا نقديا كفئا يمكنه أن يتبنى عملة موحدة ويطلقها على نحو ناجح. ومما لا شك فيه ان أهم هذه الخصائص الهيكلية هو الاعتماد المفرط على القطاع النفطي وهو قطاع أولي لا يتأثر النشاط الاقتصادي فيه باتجاهات النشاط الاقتصادي المحلي، وإنما يعتمد على اتجاهات الطلب في السوق العالمي للنفط. بمعنى آخر أن الصدمات التي يتعرض لها هذا القطاع، ومن ثم النشاط الاقتصادي المحلي، تعد صدمات خارجية Exogenous، ومن ثم لا تصلح إجراءات السياسة النقدية الموحدة لمعالجتها.
فعلى الرغم من تبني دول مجلس التعاون خططا تنموية لتعديل هياكلها الاقتصادية، وتخفيف اعتمادها على النفط كمصدر رئيس للناتج المحلي الإجمالي، إلا أن مساهمة قطاع النفط والغاز في الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول جميعا مازالت مرتفعة بصورة واضحة، ومازال إنتاج النفط والغاز يمثل عماد النشاط الاقتصادي المحلي في دول المجلس. ويؤدي مثل هذا الاعتماد الكثيف على قطاع النفط والغاز إلى تعرض مستويات النشاط الاقتصادي في هذه الدول إلى تقلبات عنيفة ناجمة عن التقلبات في الطلب الخارجي على الطاقة ومن ثم على مستوى الإيرادات النفطية.
في ظل هذه الهياكل الهشة لتوليد الدخل والناتج سوف تظل الصدمات الخارجية تمثل مصدرا مستمرا لعدم الاستقرار الاقتصادي في دول المجلس، والذي تختلف حدته من دولة إلى آخري حسب نسبة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي. في ظل هذه الظروف تبقى خيارات صانع السياسة النقدية الموحدة في دول المجلس للتعامل مع التقلبات الاقتصادية محدودة جدا نظرا لضعف أثرها على النشاط الاقتصادي المحلي، طالما أن عملية توليد الدخل تعتمد أساسا على الظروف الاقتصادية في الخارج.
بمعنى آخر إن استمرار تعرض دول مجلس التعاون لصدمات خارجية محددة سوف لن يؤدي إلى تعظيم استفادة هذه الدول من السياسة النقدية الموحدة وهي إحدى الأهداف الأساسية لتبني منطقة اتحاد نقدي وإصدار عملة موحدة.
من الخصائص الهيكلية الأخرى لاقتصاديات دول المجلس أن أداء القطاع غير النفطي يعتمد إلى حد كبير على التطورات في قطاع النفط والغاز، أي أن نمو القطاع غير النفطي يرتبط بدرجة كبيرة بتطور أداء القطاع النفطي، وإذا حدث أن تدهور أداء القطاع النفطي فإنه يؤدي إلى حدوث آثارا سلبية عنيفة على أداء القطاع غير النفطي، وإذا كان الوضع كذلك فان فعالية السياسة النقدية في تحفيز الأداء في القطاع غير النفطي سوف تظل محدودة أيضا طالما أن أداء القطاع النفطي مقيدا، والذي يرتبط بالعوامل الاقتصادية الخارجية، كما سبقت الإشارة
كذلك من أهم الخصائص الهيكلية لدول مجلس التعاون اختلال هيكل الإنفاق الكلي وارتفاع معدلات التسرب من دورة الدخل المحلي نتيجة لارتفاع مستويات الواردات من الخارج بسبب ارتفاع الميل المتوسط للاستيراد (نسبة الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي) وضيق القاعدة الإنتاجية المحلية وعدم تنوعها بالشكل الذي يحد من قدرتها على مواجهة الطلب المحلي، بصفة خاصة من السلع الاستهلاكية والرأسمالية، وهو ما يعكس ضعف القاعدة الإنتاجية المحلية بشكل عام، والحاجة إلى المزيد من التكامل بين أنظمة الإنتاج في دول مجلس التعاون وذلك لتعزيز تدفقات التجارة البينية فيما بينها.
ماذا يعني ذلك من الناحية الاقتصادية؟، إن ذلك يعني أن استخدام السياسة النقدية الموحدة لرفع مستويات الدخول والإنفاق سوف تؤدي إلى زيادة الطلب الكلي، ولكن ليس على السلع التي تنتج في الداخل، وإنما على السلع التي نستوردها من الخارج، مما يعني مرة أخرى عدم وجود أي فاعلية للسياسة النقدية الموحدة في ضبط مستويات النشاط الاقتصادي المحلي في دول المجلس في ظل الاتحاد النقدي.
من ناحية أخرى فان هامشية المصادر التقليدية للإيرادات العامة، مثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة، تجعل الصلة بين الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات العامة لدول مجلس التعاون ضعيفة جدا، إن لم تكن منعدمة، مما يؤدي إلى حرمان صانع السياسة المالية من أحد أهم الأدوات الاستقرارية والتعديلية لمستويات النشاط الاقتصادي المحلي، الأمر الذي يجعل النشاط الاقتصادي المحلي برمته تحت رحمة العوامل الخارجية.
في ظل هذه الأوضاع فان ضغوط السياسة المالية سوف تكون شديدة جدا، خاصة في أوقات الصدمات الخارجية، وأخذا في الاعتبار الدور المحدود الذي يمكن أن تلعبه السياسة النقدية فإن أوضاع دول المجلس ربما تكون أكثر تعقيدا في ظل الاتحاد النقدي عما هو الحال عليه الآن، حيث ستسلم مهمة صناعة السياسة النقدية إلى سلطة نقدية مركزية، وقد أثبتت أزمة اليورو أن العوامل المالية قد تلعب دورا أخطر من العوامل النقدية في اضطرابات الاتحاد النقدي.
ما هي خلاصة التحليل السابق، إن ذلك يعني أن الإصرار على إعلان الاستمرار في خطط إطلاق العملة الخليجية الموحدة في ظل التركيب الهيكلي الحالي لدول المجلس يعد بمثابة تبسيط شديد لمسألة في غاية التعقيد، وربما عدم إدراك لطبيعة المشكلات التي يمكن أن تترتب على إطلاق عملة موحدة بدون توافر أرضية ممهدة لإطلاقها، حيث أن أرضية التكامل الاقتصادي لدول مجلس التعاون، والتي يستند إليها في إطلاق عملة موحدة، ليست متينة بالشكل الذي قد يبدو للعيان، نحن نتحدث عن تجارة بينية لا تتجاوز 5-6% من إجمالي التجارة الخارجية لدولة المجلس، وحتى هذه النسبة الصغيرة تعاني من عدم التوازن في توزيعها بين الدول الأعضاء.
إن هناك الكثير من الخطوات التي لم تتخذ بعد لتقوية هيكل التكامل الاقتصادي بين دول المجلس وزيادة مستويات اعتمادها المتبادل على بعضها البعض من خلال دفع مستويات التجارة البينية بينها إلى أقصى حد، وذلك من خلال إعادة تقسيم للأدوار التي تؤديها الأجهزة الإنتاجية في هذه الدول وتخطيط ما يمكن أن نطلق عليه سياسات الاستثمار المشترك، بحيث يتم بناءه قاعدة إنتاجية ضخمة في دول المجلس على أساس من المزايا النسبية لكل دولة في الدول الأعضاء، وبحيث تتولى كل دولة مهمة الإنتاج ليس فقط لسوقها المحلي وإنما لكافة دول المجلس، وذلك على أساس المزايا النسبية الكامنة في هذه الدولة، وبحيث تتولى وبحيث تعطى كل دولة من دول المجلس منتجات الدول الأخرى، معاملة تفضيلية بالنسبة للسلع التي تأتي من الخارج، وذلك استنادا إلى اتفاقية التعاون الاقتصادي بين دول المجلس.
بهذا الشكل يقل اعتماد دول المجلس على الخارج، وتقل نسبة التسرب من دورة الناتج المحلي الإجمالي بها، ويقل الارتباط بين أداء القطاع النفطي والقطاع غير النفطي، وتسهل بالتالي مهمة رسم سياسة نقدية موحدة فضلا عن ارتفاع المردود المأمول منها. قبل أن يحدث التحول الهيكلي في دول المجلس بحيث نتحدث على اقتصاد خليجي متكامل من الناحية الحقيقية، أي في صورة التدفقات البينية للسلع والخدمات ورؤوس الأموال، فإن إطلاق عملة خليجية موحدة سوف يمثل مصدرا كامنا لتهديد اتفاقية التعاون الحالية بين دول المجلس، مثلما نشاهد حاليا في دول الاتحاد النقدي الأوروبي.
اسمحلى يا دكتور ابراهيم الموضوع لا يستحق كل هذا العنا فدول قطر والكويت والبحرين مجتمعه لا تمثل نصف اجمالى الناتج الاقتصادى للمملكه وعدا الكويت فكل عملا تها مربوطه بالدولار والكويت يمثل الدولار النسبه الاكبر من سلة العملات التى تقيم الدينار فى النهايه صدرت العمله الموحده او لم تصدر فلن يحس مواطنى السعوديه على الاقل باى فرق بعكس دول الخليج المجهريه التى قد يستفيد مواطنيها من تراجع اسعار بعض السلع التى تباع فيها اغلى من السعوديه بسبب صغر اسواقها
د. محمد اتفق معك في القسم الاخير من مقالتك وهي ضرورة التكامل الاقتصادي لكن يبدو أن تشائمك هنا مبني على موقف مسبق إذ أنك تجاهلت إيجابيات العملة الموحدة كزيادة التبادل التجاري ضمن دول العملة كما حصل مع الاتحاد الاوروبي. سبب اعتماد الخليج على الاستيراد هو أنه لا يوجد سوق معتبر لانشاء صناعة محلية تغذي الطلب المحلي لكن مع زيادة السكان وتوسع السوق وزيادة الطلب بالطبع ستنمو معها الصناعة المحلية. أما الصدمات وعدم الاستقرار فهذا لم يؤثر على عملات الدول الصغيرة فمن الاحرى أنها ستكون أقل أثرا على العملة الموحدة.