أثار اهتمامي في الأسبوع الماضي خبران الأول: صدور تقديرات لصندوق النقد الدولي تضع معدل النمو الاقتصادي في قطر هذا العام في أعلى مرتبة بين دول العالم، والثاني: عن ندوة عُقدت في مسقط للإحصائيين بدول مجلس التعاون من أجل تقييم النظام المقترح للحسابات القومية، والذي سيحل محل النظام الحالي المعمول به منذ عام 1993. وما يجمع بين الخبرين الكثير فمن ناحية نجد أن التقديرات هي لصندوق النقد الدولي التابع للأمم المتحدة، ومن ناحية ثانية فإن النظام المقترح للحسابات القومية صادر عن إدارة الإحصاء بالأمم المتحدة.
وما يهمنا في الموضوع هو ما يخص دولة قطر التي هي وفق النظام الحالي للحسابات القومية ستتبوأ المركز الأول في تحقيق أعلى معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي في العام 2010، وفي الوقت نفسه شارك جهاز الإحصاء في قطر في الندوة المشار إليها في مسقط من أجل تعديل الكيفية التي يًُقاس بها الناتج المحلي الإجمالي، والذي من شأنه التأثير على معدلات نمو هذا الناتج إذا تغيرت طريقة احتسابه. ولغير المختصين أشير إلى أن الحسابات القومية هي نوع خاص من المحاسبة يقوم على قياس كافة أنشطة الوحدات الإنتاجية والخدمية العاملة في أي مجتمع وصولاً إلى تقدير ناتجه المحلي الإجمالي-أي إجمالي ناتج الاقتصاد- في سنة معينة.
وبهذه المناسبة أسجل بعض الملاحظات التي مفادها أن النظام الحالي للحسابات القومية لا يتسم بالدقة الكافية في وصف الأنشطة الاستخراجية في كل الدول المنتجة للنفط والغاز والمعادن بوجه عام، إذ يؤدي هذا النظام إلى رسم صورة مغالى فيها بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي المتحقق سنة بعد أخرى، حيث تكون قيمة الناتج مرتفعة جداً مقارنة بالمدخلات الوسيطة، نظراً لأن الناتج يحتاج فقط إلى استخراج فقط من مكمنه. ومن جهة أخرى تحدث ظواهر غير مفهومة لا تحدث في دول أخرى كأن ينمو الاقتصاد بمعدلات مرتفعة قد تكون الأعلى في العالم –كما في هذا العام- بينما معدل التضخم لا يزال سالباً بنسبة 2.95%، وقد يظل كذلك حتى أغسطس أو سبتمبر القادمين!!! وفي وقت تتراجع فيه التسهيلات الممنوحة للقطاع الخاص في الشهور الأربعة الأولى من العام بنسبة 1.4% بدلاً من أن تنمو. وفي تقديري أن هذا الخلل فيما يحدث، ناتجٌ بالدرجة الأولى عن عدم الدقة في تصوير أو تسجيل أنشطة القطاعات الاستخراجية ومنها النفط والغاز.
ولكي تتضح الفكرة أكثر أشير إلى أن موارد النفط والغاز هي بطبيعتها موارد ناضبة ذات آجال محدودة، ومن هنا فإن استخراج هذه الموارد من مكامنها في باطن الأرض وشحنها وتصديرها للخارج لا يعتبر انتاجاً خالصاً مثلما يحدث في أنشطة أخرى؛ فإنتاج القطن مثلا يتجدد سنة بعد أخرى من نفس قطعة الأرض، فهو مورد متجدد ومن ثم فإن الجهد المبذول في انتاجه هو جهد خالص ومتكامل، فإذا زادت المساحة المزروعة منه أو تم استخدام أساليب حديثة في الزراعة، فإن الناتج ينمو ويزداد. ويحدث الشيئ ذاته في كافة المحاصيل الزراعية، وفي كافة الشركات الصناعية التي تنتج سلعاً متنوعة، وفي كافة القطاعات الأخرى التي تقدم خدماتها للجمهور في مجالات مختلفة كالبنوك، والتأمين والصحة والتعليم،،، وغيرها.
أما في الموارد الناضبة، فإن الزيادة في انتاجها تحقق زيادة ظاهرية في الناتج نتيجة سحب كميات متزايدة من المخزونات الأرضية وتحويلها إلى سيولة نقدية، أو حتى استثمارات أخرى، ومن ثم فهي ليست زيادة حقيقية وإنما ظاهرية حتى لو أقرها النظام الحالي للحسابات القومية للأمم المتحدة. وفي مثال مبسط نفرض أن لدى بلد ما احتياطي نفطي يُقدر بـ عشرة ملايين برميل، وأنه ينتج منه بمعدل مليون برميل سنوياً، وأن ذلك يشكل كل ناتجه المحلي الإجمالي، ثم تقرر زيادة الانتاج في العام التالي إلى 1.5 مليون برميل، عندها سيكون الناتج المحلي الإجمالي قد نما بنسبة 50% في السنة الثانية - بافتراض بقاء سعر النفط بدون تغير-. ولكن في المقابل، ستؤدي الزيادة إلى خفض العمر الافتراضي لحقل النفط من عشر سنوات إلى خمس سنوات فقط، ويتوقف الإنتاج تماماً بعدها. فإذا كان جزء من قيمة النفط المنتج لا يتحول إلى استثمارات تدر دخلاً مستمراً ، فإن هذه الدولة تخسر كل شيئ بعد نفاد مخزونها النفطي.
من أجل ذلك أرجو أن يهتم جهاز الإحصاء بهذا الموضوع، وهم يراجعون الصيغة الجديدة لنظام الحسابات القومية، حتى لا نظل نمني أنفسنا بتحقيق أعلى معدلات للنمو الاقتصادي في العالم، بينما نحن في الحقيقة نسحب من مخزوناتنا الأرضية من نفط أو غاز بشكل متزايد، ونحولها إلى حسابات نقدية في البنوك أو في مشروعات فوق الأرض.
تجدر الإشارة إلى أنه من الناحية المحاسبية فإن دخل النفط أو الغاز يتم توزيعة بين إتاوات وضرائب للحكومات، وبين مصروفات وعوائد للشركات المنتجة، فماذا لو عدلنا الطريقة الاقتصادية في حساب الناتج المحلي الإجمالي؛ بحيث تتضمن نقصاً في المخزون الأرضي للنفط بقيمة معقولة يمكن الاتفاق عليها سنوياً، مقابل زيادة في أرصدة الاستثمار، وبمعنى آخر فإن المتطابقة الشهيرة للناتج المحلي الإجمالي:
الناتج الإجمالي المحلي= إجمالي( الصادرات – الواردات)+إجمالي الاستهلاك الكلي+إجمالي الاستثمار+ التغير في المخزون. تحتاج إلى إعادة نظر في مكوناتها المتعارف عليها من أجل رسم صورة حقيقية للناتج المحلي الإجمالي، والوصول إلى معدلات نمو اقتصادية أكثر واقعية.
مقالك رائع أخي كما هي مقالاتك الأخرى مع تعديل بسيط أن النفط سينضب في 6 سنوات وثلثين وليس في خمس سنوات في المثال الافتراضي. وفي كل الأحوال تبقى قطر من أفضل الدول في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية . تتمتع بجرأة وإقدام نحو الأمام تماماً. يكفي أنها ليست كمن أفقده التروي المفرط والتحفظ المقيت والريبة الاجتماعية فرصاً للنمو والازدهار المعيشي والارتياح الاجتماعي. فعلا صدق شاعرها قطري بن الفجاءة حين قال : وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عدّ من سقط المتاعِ
أنت على حق يا مأمون سينضب بعد أكثر من ست سنوان، ولكنني في المثال قصدت التبسيط ولم اكن أبحث عن الجواب الدقيق بمعني التنويه إلى أن النفط مورد ناضب مثلما نضب تقريباً في دبي بشير يوسف الكحلوت
الأستاذ بشير.. شكرا على الطرح المفيد ... ولكن ستواجهنا مشكلة كيفية حساب المخزون الناقص هل نحسبة بالتكلفة؟؟؟ تكلفة الاستخراج منخفضة جدا ولن تغير في المعادلة شئ... أعتقد انك اشرت الى الناتج المحلي بالقيمة الاسمية ولكن هناك ايضا الناتج الاجمالي بالقيمة الحقيقية وهو يأخذ في الحسبان أثر زيادة اسعار السلع واعتقد أن هذا الرقم سيكون اقل بكثير من رقم نمو الناتج المحلي بالقيمة الاسمية... بالمناسبة هذه الظاهرة موجودة بكل دول الخليج المصدرة للنفط فمثلا في السعودية نمو القطاع الخاص محدود منذ سنتين ويمكن استنتاج ذلك من معدلات الاقراض والاستهلاك والواردات...
الأخ الدكتور المزروعي تحية طيبة وبعد،،، بالطبع لا،،، فقيمة المخزون النفطي في أية سنة تكون بالسعر الجاري مطروحاً منه تكلفة الاستخراج وتكاليف ومخصصات أخرى، هذا إذا كنت تحسب الناتج بالأسعار الجارية أما مع سنة أساس وأسعار ثابتة فإن المنطق نفسه يطبق في الحساب أي نأخذ اسعار سنة الأساس. بشير الكحلوت