جاءني هذا السؤال في صورة تعليق على موضوع بيع ما تبقى من القطاع العام في مصر، من أحد قرائي الأعزاء والمتابعين لمقالاتي في الكويت والذي يحمل اسم فيلسوف. يقول السؤال "ما رأيك دكتورنا في موضوع الخصخصة بالكويت من منطلق اقتصادي؟؟ فالكثير طلب عدم تخصيص القطاعات الناجحة مثل الشركات النفطية بل تخصيص البريد مثلا الذي يشكل عبء على الدولة دون أي فائدة تذكر أو كشركة الخطوط الجوية الكويتية التي تجلب الخسائر للدولة .. فما هو رأيك بهذا الموضوع كمختص؟ لأننا سمعنا جميع الآراء غير الاقتصادية ولكن لم يخرج علينا أحد يحلل الموضوع من منطلق اقتصادي حيادي بحت"؟ هذا هو سؤال القارئ العزيز فيلسوف، وقد ارتأيت أن أوسع ردي في مقال مستقل تعميما للفائدة.
ردي تعد الخصخصة أحد أدوات السياسة الاقتصادية، ويقصد بالخصخصة تحويل ملكية الأصول العامة التي تقوم بإنتاج وتوفير السلع والخدمات من القطاع العام إلى القطاع الخاص. غير أن الكتابات الاقتصادية توسع هذا التعريف الضيق للخصخصة لتشمل خصخصة الإدارة والتوريد وإلغاء القيود أمام القطاع الخاص في توفير السلع والخدمات، بما في ذلك إعطاء القطاع الخاص تراخيص إنتاج وتقديم السلع والخدمات العامة، وغالبا ما يهدف برنامج الخصخصة في دول العالم إلى تحقيق الأهداف الآتية: • تشجيع النمو الاقتصادي بقيادة القطاع الخاص • فتح الآفاق أمام تدفقات الاستثمار الأجنبي • القضاء على مصادر الهدر في الإنفاق العام • الحد من الفساد الإداري المصاحب لقطاع حكومي كبير الحجم • توسيع نطاق سوق المال وتعميق نطاقه وتنويع الأدوات الاستثمارية فيه
والخصخصة التي نقصدها هنا هي تحويل الأصول العامة إلى القطاع الخاص في قطاعات الإنتاج والخدمات، ونقصد بالأصول العامة هنا الشركات العامة لإنتاج السلع مثل وزارة الكهرباء والماء أو المواصلات والاتصالات، ووحدات تقديم الخدمات مثل البريد والمستشفيات والمدارس والجامعات.. الخ، ولقد أثبتت التجارب الدولية في الخصخصة أن عملية تحويل الأصول العامة إلى القطاع الخاص لها آثار إيجابية عديدة على كافة القطاعات سواء الصناعية أو الخدمية، حيث تزداد عمليات المشروعات بصورة مباشرة بعد عملية الخصخصة، كذلك تزداد الاستثمارات الخاصة كما ترتفع مستويات الكفاءة الإنتاجية والاقتصادية للمشروعات المحولة للقطاع الخاص.
تشير الدراسات التطبيقية التي أجريت على حالات الخصخصة في العالم أن برامج الخصخصة تؤدي إلى ارتفاع مستويات النمو الاقتصادي. فقد أشارت دراسة Plane 1997 على عينة من 35 دولة نامية خلال الفترة من 1984-1992 أن برنامج الخصخصة يؤدي إلى حدوث اثر ايجابي على النمو الاقتصادي، حيث أدت عمليات الإصلاح المؤسسي إلى زيادة النمو الاقتصادي في المتوسط من 0.8% إلى 1.5% خلال الفترة ما بين 1984-1992. أما Barnett, 2000 فقد قام بتحليل آثار الخصخصة على النمو الحقيقي والتوظيف والاستثمار في 18 دولة، منها 12 دولة نامية و6 دول ناشئة، وقد أشارت النتائج التطبيقية إلى تأييد فرضية أن الخصخصة ترتبط بشكل ايجابي مع نمو الناتج الحقيقي، فقد وجدت الدراسة انه في مقابل كل عملية خصخصة تساوي قيمتها 1% من الناتج المحلي الإجمالي يزداد النمو الاقتصادي الحقيقي بحوالي 0.5% في نفس السنة، وحوالي 0.4% في السنة اللاحقة لها بشكل عام. أما بالنسبة للدول الناشئة فان كل عملية خصخصة قيمتها 1% من الناتج المحلي الإجمالي تؤدي إلى زيادة النمو بمعدل 1.1% في نفس السنة و0.8% في السنة التي تليها، أي بمعدل نمو متراكم بحوالي 2% خلال سنتين، أكثر من ذلك فقد وجد Galal et al. (1994) أن برنامج الخصخصة يؤدي إلى أثار ايجابية صافية على الرفاهية، والناجمة عن الآثار الايجابية على الإنتاجية وتعظيم العوائد على الاستثمار وارتفاع كفاءة عمليات التسعير.
وتعد الخصخصة أحد أهم السياسات الفعالة التي يمكن أن تستخدمها الحكومات لجذب الاستثمار الأجنبي. وتأتي العلاقة بين الخصخصة والاستثمار الأجنبي من ثلاث قنوات هي:
الأولى الأثر المباشر: بصفة خاصة عندما يصاحب الخصخصة عملية تحرير اقتصادي وفتح المجال أمام المزيد من المنافسة، وهو ما يؤدي إلى جذب المستثمرين الأجانب ليس فقط لشراء الشركات التي يتم خصخصتها وإنما للمشاركة في المشروعات الجديدة مثل مشروعات البنى التحتية في مجالات مثل الكهرباء والاتصالات.
الثانية الأثر غير المباشر: حيث تؤدي الخصخصة إلى تطوير أسواق المال والذي عندما تكون مصحوبة بالهيكل الإجرائي المناسب حيث تؤدي إلى جذب محافظ الاستثمار الأجنبي، أكثر من ذلك فان تنمية أسواق المال تشجع الاستثمار الأجنبي المباشر حيث توفر للمستثمرين إستراتيجية سيولة من خلال إمكانية الخروج من السوق.
الثالثة وهي أن قيام الدول بالخصخصة يعطي التزاما واضحا من قبل الحكومة للمستثمرين بتخفيض المخاطر السياسية والتنظيمية، والتي تحول في الغالب دون تدفقات الاستثمار المباشر.
كذلك تعد الخصخصة العامل الرئيس وراء تنمية أسواق المال، حيث تساعد على زيادة حجم السوق من خلال ارتفاع حجم رؤوس الأموال المتداولة في السوق، وتعمق نطاق السوق، من خلال زيادة أعداد حملة الأسهم، وزياد مستويات السيولة فيه، وغالبا ما تكون أسهم الشركات التي يتم خصخصتها هي أهم الأسهم المتداولة في البورصة بعد عمليات الخصخصة، وهناك اتفاق بين الدراسات التي أجريت في مجال الخصخصة على أن خصخصة المشروعات العامة يؤدي إلى تحسين أداء الشركات، سواء من الناحية المالية أو من ناحية العمليات الإنتاجية، حيث وجدت تلك الدراسات أن الملكية الخاصة تتفوق عن الملكية العامة، لأنها توفر حوافز للكفاءة ومن ثم أداء أفضل للشركات، فقد توصلت أكثر من 50 دراسة على آلاف الشركات التي تم خصخصتها في معظم الدول أن أداء الشركات قد تحسن بعد عملية الخصخصة، حيث أصبحت الشركات أكثر كفاءة وأكثر ربحية وتقوم بالمزيد من الإنفاق الاستثماري، وأفضل من حيث أوضاعها المالية العامة.
الخصخصة إذن هي بشكل عام إجراء جيد من الناحية الاقتصادية، وفي رأيي أنه ليس هناك أي تصور يمكن أن يحدث في الكويت، ودول مجلس التعاون، لمرحلة ما بعد انتهاء عصر النفط سوى بتحويل كل قطاعات إنتاج السلع والخدمات في الدولة إلى القطاع الخاص، وإلا فمن أين يمكن أن توفر الدولة مدفوعات الرواتب لهذا الجيش الضخم من الموظفين. مطلوب من الكويت، ودول مجلس التعاون، الآن التخلص من أجهزتها الإنتاجية والخدمية العامة وتحويلها شيئا فشيئا إلى القطاع الخاص استعدادا لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، حيث أن أفضل عمليات الإنتاج وأكفئها هي تلك التي تتم عن طريق القطاع الخاص، وليس عن طريق الحكومة. مشروعات القطاع العام هي مشروعات ليس لها مالك محدد (إنه الدولة)، ليهتم بقضايا التكاليف والأرباح ومستويات الخسائر والكفاءة ومعدلات التوظف المثالية... الخ، ومن ثم فإن الأوضاع تكون أكثر احتمالا بأن تسير على نحو أسوأ في ظل الملكية العامة. باختصار الدولة مدير سيئ للموارد، ولم يحدث أن تحقق في ظل ملكيتها كفاءة استخدام للموارد على النحو الأمثل، ولكن من المؤكد أن عملية الخصخصة لها ضحايا، أهمها جيش الموظفين الذين نشأوا وترعرعوا في ظل مناخ إداري شبه متسيب، والذين يضمنون فرص ترقيتهم فقط استنادا إلى المعيار الزمني، وربما البعض منهم يضمن وصوله إلى أعلى المستويات بسبب الواسطة التي يملكها، أو العائلة التي ينتمي إليها، ناهيك عن ان احتمالات انتشار الفساد الإداري غالبا ما تكون على نطاق أوسع في المشروعات الحكومية. لأسباب كثيرة يفضل التخلص من القطاع العام وتحويله إلى القطاع الخاص، مع محاولة تدنية التكاليف التي سيواجهها المجتمع من جراء هذه العملية، بصفة خاصة على العاملين.