حينما تقوم دولة ما باتباع سياسات تهدف إلى جعل عملتها رخيصة، من خلال فرض قيمة لعملتها تقل عن القيمة الفعلية لها، فإن صادرات تلك الدولة إلى باقي دول العالم تصبح أرخص، بينما تصبح وارداتها من باقي دول العالم أكثر تكلفة، وفي ظل توافر شروط محددة حول مرونات الطلب والعرض للصادرات والواردات، فإن مثل هذا الوضع يتسبب في حدوث فوائض تجارية للدولة صاحبة العملة الرخيصة، حيث ترتفع القدرة التنافسية لصادرات تلك الدولة في مقابل شركائها التجاريين، وهو ما يعني أن شركاء تلك الدولة في التجارة سيخسرون فرص توظيف في مقابل معدلات أعلى من التوظف في الدولة صاحبة العملة الرخيصة.
الرينمنبي (التسمية الرسمية لعملة الصين)، أو ما يعرف باليوان هو عملة الصين الأساسية، التي يتهمها العالم، بصفة خاصة الولايات المتحدة، منذ أكثر من عشر سنوات بأنها تقيمه بقيمة تقل عن قيمته الحقيقية، وهو ما يتسبب في منح الصين ميزة تنافسية زائفة تنبع أساسا من انخفاض معدل صرف اليوان بالنسبة إلى العملات الأجنبية, الأمر الذي يجعل الصادرات الصينية رخيصة نسبيا بالنسبة إلى منافسيها في دول العالم المختلفة. فمن وقت إلى آخر تشير التقارير إلى أن قيمة اليوان تقل عن القيمة الحقيقية لها، وأن اليوان الرخيص هو أحد الأسلحة الفتاكة التي توجهها الصين إلى الصناعة العالمية، وبصفة خاصة الصناعة الأمريكية، بحيث تحولت الصين وفي غضون فترة زمنية قصيرة جدا إلى المصدر رقم 1 في العالم، وسرعان ما حلت السلع الصناعية الصينية محل مثيلتها في معظم دول العالم، وتحولت الصين بالتالي إلى صاحبة أعلى معدل للنمو الحقيقي في العالم, وصاحبة أكبر فائض تجاري في العالم، وصاحبة أكبر احتياطي نقدي في العالم، ولم تجد الصين خيارا آخر لاستخدام احتياطياتها النقدية الضخمة سوى في الاستثمار في شراء السندات الأمريكية وبحيث تحولت الصين أيضا إلى أكبر ممول للدين الحكومي الأمريكي، بل سيشهد هذا العام حلول الصين في مرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة متخطية بذلك ألمانيا واليونان. بل أكاد أجزم أنه إذا استمر الاقتصاد الصيني في تحقيق هذه المعدلات المبهرة للنمو فإنه سرعان ما سيوجه الضربة القاضية للاقتصاد الأمريكي ليزيحه عن قائمة أكبر اقتصاد في العالم.
تشير الدراسات أيضا إلى أن اليوان الرخيص كان مدعوما بسياسات مساندة لتفعيل دوره في دعم الصادرات الصينية مثل تبني معدلات منخفضة نسبيا للأرباح في الشركات الصناعية الصينية، وكذلك تحقيق معدلات عائد منخفضة على استثمار رأس المال بشكل عام، هذه السياسات مجتمعة خلقت ميزة نسبية مكتسبة لمصلحة الصين في مقابل منافسيها من المصنعين في العالم سواء أكانوا المصنعين الجدد من جيرانها في المنطقة، أو المصنعين التقليديين في دول العالم المتقدم, وأصبحت عبارة صنع في الصين ''أيقونة'' شبه عالمية نجدها في كل مكان في العالم.
عندما وقعت أحداث أيلول (سبتمبر) دخل الاقتصاد الأمريكي في حالة كساد، وتفتحت عيون صانع السياسة في الولايات المتحدة على الصين، وبدءا من 2004 الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأصغر ضغوطا على الصين لرفع قيمة اليوان اعتقادا من الإدارة الأمريكية بأن رفع قيمة اليوان سيحسن من وضع الميزان التجاري الأمريكي ويساعد على تحسين توازن التجارة بين الولايات المتحدة والصين ومن ثم تقليل العجز التجاري الأمريكي مع الصين، ويحسن من أوضاع سوق العمل، ونجحت ضغوط الرئيس الأمريكي وانصاعت الصين للمطالب الأمريكية، وفي 2005 سمحت الحكومة الصينية لليوان بأن يعوم في حدود ضيقة جدا، وهو ما أدى إلى ارتفاع قيمة اليوان وأجبرت الصين على تخفيض اليوان في مقابل الدولار بنسبة 21 في المائة. ومنذ عام 2008 لم تتغير قيمة اليوان 2008 على الرغم من ظروف الأزمة.
الميزان التجاري بين البلدين ومنذ فترة طويلة في مصلحة الصين، على سبيل المثال في 2009 بلغت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة نحو 300 مليار دولار، بينما لم تتجاوز الصادرات الأمريكية إلى الصين 70 مليار دولار، ومن ثم بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين في العام الماضي فقط 230 مليار دولار.
وعندما كان الرئيس الحالي أوباما يخوض معركته الانتخابية أعلن أكثر من مرة أن الصين تحدد معدل الصرف الخاص باليوان بعيدا عن قوى العرض والطلب، وأن انخفاض قيمة العملة الصينية مصطنع، الأمر الذي يعطي السلع الصينية ميزة تنافسية غير عادلة في مواجهة السلع الأمريكية، بل أعلنها صريحة أن الصين بهذه السياسة تسرق وظائف العمال في أمريكا لمصلحة العاملين في الصناعة الصينية، وبعد نجاح الرئيس الأمريكي وتشكيل الإدارة الأمريكية أسند إلى تيموثي جايثنر مهمة إدارة الخزانة الأمريكية، وأعلن الأخير بمجرد تسلمه زمام الأمور أن الصين دولة تتلاعب بعملتها Currency manipulator، وهي المرة الأولى التي يوجه فيها هذا الاتهام إلى الصين بهذه القوة، وهو اتهام خطير في القانون الأمريكي الذي ينص على ضرورة أن يكشف تقرير وزارة الخزانة الأمريكية، الذي يعد مرتين في السنة في نيسان (أبريل) وتشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، عن ممارسات العملات الدولية، وأن يحدد التقرير الدول التي تتلاعب بمعدل صرف عملاتها بهدف تحقيق ميزات تجارية.
لكن ما الذي يترتب على إعلان الصين دولة متلاعبة بعملتها؟ وفقاً للقانون الأمريكي يحق للكونجرس الأمريكي في هذه الحالة اتخاذ إجراءات مضادة تبدأ أولا بفتح الباب لمفاوضات ثنائية بين الدولتين حتى تغير الصين من تكتيكات تحديد قيمة عملتها، فإذا لم تنجح هذه المفاوضات في إثناء الصين عن موقفها يحق للولايات المتحدة القيام بفرض عقوبات تجارية على الصين بما في ذلك فرض ضرائب جمركية انتقائية على السلع الصينية بما يعادل نسبة الانخفاض المتوقع في قيمة اليوان، أو اتخاذ أي إجراءات انتقامية أخرى حتى تنصاع الصين وترفع قيمة اليوان.
الصين مطالبة اليوم من الإدارة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى بأن ترفع من قيمة اليوان في مقابل الدولار على أمل أن يشجع ذلك الصادرات الأمريكية إلى الصين ويخفف من سيل الواردات من تلك الدولة، بما يسمح بتقليل العجز التجاري الأمريكي مع الصين. من جانبها الإدارة الصينية تتجاهل هذه الدعوات ولا ترى أن اليوان مقوم بأقل من قيمته الحقيقية أو أنها تتلاعب بقيمة عملتها، بل ترفض بشدة اتخاذ أي إجراء لرفع قيمة اليوان. المخاطر المصاحبة لاحتمالات المواجهة المباشرة بين الدولتين مرتفعة للغاية, ولن تطول فقط العلاقات التجارية بين الدولتين بل ستنعكس آثارها على الاقتصاد العالمي برمته، لكن لماذا هذا التوقيت بالذات لإعلان النوايا الأمريكية عن شن حرب تجارية على الصين؟ هذا ما سيكون محور الجزء الثاني من هذا المقال.
http://www.argaam.com/Portal/Content/ArticleDetail.aspx?articleid=152585