إنفاق يعاد تشكيله، وعجز مقصود، ونمو غير نفطي يجري بناؤه بوعي وحوكمة.. ميزانية السعودية 2026 تعكس توجه اقتصادي جديد للمملكة، وتكشف بوضوح أن المملكة اختارت المضي في طريق النمو مهما كلّف الأمر من عجز، وأنها لم تعد تنظر للعجز كخطأ مالي بل كأداة لإعادة تشكيل الاقتصاد. فرغم تراجع أسعار النفط وما يمثله ذلك من ضغط على الإيرادات، حافظت الحكومة على مستوى إنفاق مرتفع يصل إلى 1.31 تريليون ريال، مقابل إيرادات تقدر بنحو 1.147 تريليون ريال، ما يترك عجزًا قدره 165.4 مليار ريال. لكن العجز هنا ليس نتيجة خلل بقدر ما هو «ثمن» تدفعه الدولة مقابل تسريع التحول الاقتصادي وفصل النمو عن النفط قدر الإمكان.
من يستمع لتصريحات وزير المالية محمد الجدعان يدرك أن المملكة لا تتعامل مع العجز كطارئ يجب إغلاقه سريعًا، بل كقرار مدروس، إذ يؤكد أن الاقتراض مستمر طالما أن عائده يتجاوز تكلفته. الرسالة الأهم هنا هي أن السعودية تبني اقتصادًا جديدًا، وهذا البناء يتطلب استثمارات ضخمة لا يمكن تمويلها من الإيرادات وحدها، خصوصًا في سنوات تراجع أسعار النفط.
من أبرز ملامح الميزانية هذا العام أن المملكة لم تخفِ نيتها إعادة تشكيل أولويات الإنفاق. فبعد سنوات طُرحت فيها مشاريع عملاقة جذبت الأنظار عالميًا، تميل الميزانية الآن نحو القطاعات ذات المردود السريع والأثر الإنتاجي الواضح: الصناعة، والتعدين، والخدمات اللوجستية، والسياحة الدينية. هذه ليست مجرد تغييرات في بنود الإنفاق، بل تغيير في الفلسفة الاقتصادية نفسها. فالمملكة تقول بشكل غير مباشر إنها مستعدة للتراجع عن بعض المشاريع، وتسريع أخرى، أو حتى إلغاء بعضها إذا لم تكن تحقق الجدوى المطلوبة. هذا التحول إلى «الإنفاق المشروط بالعائد» يعكس نضجًا ماليًا طالما دعت إليه المؤسسات الدولية، وقد أصبح اليوم جزءًا من الخطاب الرسمي.
ورغم حفاظ الحكومة على مستويات إنفاق مرتفعة، إلا أن إعادة توزيع هذا الإنفاق هي الرسالة الحقيقية. الدفاع بـ64 مليار دولار، والتعليم بـ54 مليار، والصحة والتنمية بـ69 مليار، كلها قطاعات ترتبط مباشرة بجودة النمو، لا حجمه فقط. وفي المقابل، كان تقليص الإنفاق البلدي بمثابة إشارة واضحة إلى أن كل ريال يجب أن يذهب إلى حيث يكون أكثر تأثيرًا. حتى الإنفاق الرأسمالي، الذي انخفض من 46 إلى 43 مليار دولار، لم يكن تخفيضًا بالمعنى التقليدي، بل نقلاً لجزء من هذا العبء إلى صندوق الاستثمارات العامة الذي بات لاعبًا محوريًا في الاقتصاد، ويمتلك قدرة أكبر على الاقتراض والتمويل دون أن يثقل كاهل الميزانية.
التراجع في الإيرادات النفطية بنسبة 7.8% لم يكن مفاجئًا، خاصة مع التزام المملكة بخفض الإنتاج ضمن اتفاق أوبك+، لكن ما يستحق التوقف هو أن السعودية لم تغيّر مسارها المالي رغم هذا التراجع. إضافة إلى أن الثبات في السياسة المالية هو ما يمثل التحول الحقيقي: الدولة لم تعد ترفع أو تخفض إنفاقها بناءً على آخر سعر للبرميل، بل وفق خطة تحول طويلة المدى، وهذا أحد عوامل الاستقرار التي كانت تفتقر إليها المالية العامة تاريخيًا.
في الوقت نفسه، تستمر السعودية في إدارة العجز عبر مزيج من القروض المحلية والدولية، مع توقع ارتفاع الدين العام إلى 1.62 تريليون ريال في عام 2026، أي 32.7% من الناتج المحلي، وهي نسبة لا تزال منخفضة مقارنة بالاقتصادات العالمية. ومع ذلك، تلعب السياسات المالية والمنهجية الجديدة لترشيد الإنفاق دورًا مهمًا في إبقاء الدين ضمن الحدود الآمنة.
تمثل ميزانية 2026 بداية مرحلة جديدة من رؤية 2030، وإذا كانت المراحل السابقة ركزت على إطلاق البرامج وتأسيس البنية الاقتصادية الجديدة، فإن هذه المرحلة تركز على تعظيم الأثر وتحقيق العائد الاقتصادي المستدام. وهنا يبرز مفهوم حوكمة الإنفاق، الذي يدفع نحو توجيه الموارد إلى المشاريع ذات العائد الأسرع والأكثر تأثيرًا، مع استعداد تام لإعادة ترتيب الأولويات.
قرارات أوبك+ المتعلقة بخفض الإنتاج كان لها تأثير واضح في تراجع الإيرادات النفطية، وهو عامل خارجي ستظل المملكة تتعامل معه بحذر. ومع غياب بديل يعوض هذه الإيرادات بشكل كامل، تبرز أهمية الحفاظ على استقرار الإنفاق وتنويع مصادر الدخل كجزء أساسي من الاستراتيجية الاقتصادية السعودية.
ورغم تسجيل عجز مالي متوقع قدره 165 مليار ريال في 2026، تبعث السعودية رسالة واضحة بأن هذا العجز ليس علامة ضعف بل أداة لتحقيق أهداف التحول الاقتصادي. كما تؤكد الحكومة التزامها بالحفاظ على متوسط إنفاق سنوي يقارب 1.3 تريليون ريال خلال الثلاث سنوات المقبلة، في خطوة تعزز الاستقرار وتقلل من التقلبات المرتبطة بأسعار النفط.
باختصار، ما تقدمه ميزانية السعودية للعام 2026 هو مزيج بين الجرأة والانضباط: جرأة في الإصرار على النمو رغم العجز، وانضباط في إعادة توجيه الإنفاق إلى حيث يخلق قيمة اقتصادية حقيقية. السعودية تقول إنها مستعدة لتحمل العجز اليوم من أجل اقتصاد أكثر توازنًا واستدامة غدًا. وهذه رؤية تستحق المتابعة، لأن نتائجها لن تظهر في سنة واحدة، بل في العقد القادم بأكمله.
خاص_الفابيتا



الاقتصاد السعودي من المتوقع أن يشهد نمو قوى خلال 2026 - رغم تراجع أسعار النفط- مدفوعاً بالتنوع الاقتصادي والضبط المالي. شكراً للإفادة أ محمود