قطاع الطيران نبض الاقتصاد العالمي الذي لا يهدأ

01/12/2025 0
م. علي بن سعد الدخيل

لا يمكن اختزال قطاع الطيران في كونه مجرد وسيلة لنقل البشر، والبضائع عبر القارات، بل هو بمثابة الدورة الدموية للاقتصاد العالمي، وشبكة شريانية تضخ الحياة في عروق التجارة، والسياحة، والتبادل الثقافي، إن تأثيره يتجاوز بكثير حدود المطارات، ومسارات الطيران، حيث شكّل في عام 2023 ما يعادل اقتصاد الدولة العشرين على مستوى العالم، مساهماً بنحو 4.1 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وداعماً لمنظومة وظائف هائلة تضم 86.5 مليون شخص. ومع ذلك، يقف هذا القطاع العملاق اليوم عند مفترق طرق تاريخي، محلقاً في سماء تبدو صافية للوهلة الأولى، لكنها تخفي وراءها اضطرابات عميقة، ففي الوقت الذي يستعد فيه القطاع لنقل أعداد ركاب قياسية تقارب 5 مليارات مسافر في عام 2025، في مشهد يعكس تعافياً قوياً بعد الجائحة، فإنه يفعل ذلك في ظل تباطؤ متوقع في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

هذا التناقض الظاهري يكشف عن حقيقة جوهرية، وهي أن القوة التي يبديها القطاع حالياً هي "قوة هشة"، فالربحية المتوقعة لا تنبع من ازدهار اقتصادي عالمي متزامن، بل تستند إلى حد كبير على عوامل متقلبة، أبرزها انخفاض أسعار وقود الطائرات، هذه الهشاشة تتعمّق بفعل رياح معاكسة متعددة، من التوترات الجيوسياسية التي تعيد رسم خريطة الأجواء، إلى تحديات الاستدامة التي تفرض تكاليف باهظة، واختناقات سلاسل التوريد التي تكبح جماح النمو، وفي خضم هذا المشهد العالمي المعقد، تبرز قصة استثنائية من قلب الشرق الأوسط، حيث لا تكتفي المملكة العربية السعودية بالمشاركة في موجة التعافي، بل تطلق العنان لاستراتيجية وطنية جريئة لا تهدف فقط إلى بناء قطاع طيران محلي قوي، بل تسعى بشكل مباشر إلى إعادة تشكيل مركز الثقل في صناعة الطيران العالمية، مقدمةً بذلك سردية بديلة قائمة على الطموح، والاستثمار الاستراتيجي في مواجهة حالة عدم اليقين العالمي.

الأجواء العالمية والاضطرابات الاقتصادية

عند التعمق في الأرقام التي ترسم ملامح المشهد الاقتصادي لقطاع الطيران العالمي، تظهر مفارقة لافتة، فوفقاً لتوقعات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، من المنتظر أن تحقق شركات الطيران العالمية أرباحاً صافية بقيمة 36.0 مليار دولار في عام 2025، ما يمثّل تحسناً ملحوظاً عن أرباح عام 2024 البالغة 32.4 مليار دولار، هذا النمو في الربحية يبدو متناقضاً مع التوقعات التي تشير إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى 2.5% في العام نفسه، إن المحرك الأساسي وراء هذه الظاهرة ليس انتعاشاً اقتصادياً شاملاً، بل هو انخفاض كبير في تكاليف التشغيل، وتحديداً في أسعار وقود الطائرات، حيث تشير التقديرات إلى أن متوسط سعر برميل وقود الطائرات سينخفض بنسبة 13% على أساس سنوي ليصل إلى 86 دولاراً في عام 2025، مقارنة بـ 99 دولاراً في عام 2024، وهو من شأنه أن يخفض فاتورة الوقود الإجمالية للصناعة بمقدار 25 مليار دولار.

ومع ذلك، فإن هذه الأرقام الإيجابية تخفي وراءها حقيقة أكثر قتامة، فهذه الأرباح، التي تبدو ضخمة، لا تمثّل سوى هامش ربح صافٍ ضئيل للغاية يبلغ 3.7%، أي ما يعادل 7.20 دولارات فقط لكل مسافر في المتوسط. هذا الهامش الضئيل يؤكّد على الطبيعة الحساسة والمتقلبة للقطاع، حيث يمكن لأي صدمة غير متوقعة في أسعار الطاقة أو تراجع في الطلب أن تمحو هذه الأرباح الهشة بسرعة، فالاعتماد على انخفاض أسعار سلعة متقلبة مثل النفط لتحقيق الربحية يكشف عن ضعف هيكلي بدلاً من قوة اقتصادية متأصلة، مما يجعل الصناعة في حالة تأهب دائم لأي متغيّرات قد تعصف باستقرارها المالي.

مؤشرات اقتصادية لقطاع الطيران العالمي وأرباح الشركات
 

العام/الفترة

القيمة

المؤشر

2023

4.1 تريليون دولار

المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي

2023

86.5 مليون وظيفة

الوظائف المدعومة عالميًا

2025

ما يقارب 5 مليارات مسافر

عدد المسافرين المتوقع

2025

36.0  مليار دولار متوقع

صافي أرباح شركات الطيران العالمية

2024

 32.4 مليار دولار

صافي أرباح شركات الطيران العالمية

 2025 متوقع

3.7%

هامش الربح الصافي للقطاع

 2025 متوقع

7.20 دولار

متوسط الربح لكل مسافر

المصدر (الرئيس): الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA) التقرير المرجعي "التوقعات الاقتصادية لقطاع النقل الجوي" (Economic Outlook for Air Transport) 
 
الرياح الجيوسياسية المعاكسة وتصدعات سلاسل التوريد
 
بعيداً عن دفاتر المحاسبة، يواجه قطاع الطيران تحديات خارجية لا تقل خطورة، فالاضطرابات الجيوسياسية لم تعد مجرد أخبار عابرة، بل أصبحت عاملاً مؤثراً بشكل مباشر في تكاليف التشغيل اليومية، فالصراعات المستمرة أدت إلى إغلاق مساحات جوية حيوية، كما هو الحال فوق روسيا، ومناطق في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مما يجبر شركات الطيران على اتخاذ مسارات أطول وأكثر تكلفة، وهو ما يترجم مباشرة إلى زيادة في استهلاك الوقود، وتعقيدات في جدولة الرحلات وإدارة أطقم الطيران، هذه التكاليف الإضافية تضغط على هوامش الربح الضئيلة أصلاً.
تتفاقم هذه المشكلة مع موجة جديدة من الحمائية التجارية، حيث أدت التوترات المتصاعدة بين القوى الاقتصادية الكبرى إلى فرض رسوم جمركية على مواد حيوية لصناعة الطيران، مثل الألمنيوم عالي الجودة، والتيتانيوم، والمكونات الإلكترونية. هذه الرسوم لا ترفع تكلفة الإنتاج فحسب، بل تعيد تشكيل استراتيجيات التصنيع العالمية، وتعيق التعاون عبر الحدود بين مراكز الطيران الرئيسية، وتتصل هذه الأزمة بشكل مباشر مع أزمة أخرى لا تقل أهمية، وهي الاختناقات المستمرة في سلاسل التوريد الخاصة بقطاع الطيران، فشركات تصنيع الطائرات تواجه صعوبات جمة في الوفاء بجداول التسليم، مما أدى إلى تراكم طلبات هائل يبلغ 17,000 طائرة، هذا التأخير لا يؤثّر فقط على خطط التوسع لشركات الطيران، بل يجبرها على مواصلة تشغيل طائرات أقدم، وأقل كفاءة في استهلاك الوقود، مما يزيد من تكاليف الصيانة، ويعرقل الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف البيئية.

معضلة الاستدامة التكلفة الباهظة لسماء خضراء

في خضم هذه التحديات، تبرز معضلة الاستدامة كأحد أكبر الضغوطات طويلة الأمد على القطاع، فقد التزمت صناعة الطيران، عبر منظمات مثل IATA وICAO، بهدف طموح يتمثل في تحقيق صافي انبعاثات كربونية صفرية بحلول عام 2050. ويُعد وقود الطيران المستدام Sustainable Aviation Fuel (SAF) حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية، وعلى الرغم من أن سوق وقود الطيران المستدام يشهد نمواً، حيث من المتوقع أن يصل حجمه إلى 2.06 مليار دولار في عام 2025 مع تضاعف الإنتاج ليصل إلى 2 مليون طن، إلا أن هذه الكمية لا تزال تمثل قطرة في محيط، إذ تغطي 0.7% فقط من إجمالي احتياجات الصناعة من الوقود. المشكلة الأكبر تكمن في التكلفة، فالتوقعات تشير إلى أن سعر وقود الطيران المستدام سيكون أعلى بـ 4.2 مرة من سعر الوقود التقليدي في عام 2025، مما سيضيف عبئاً مالياً يقدر بـ 4.4 مليار دولار على فاتورة وقود الصناعة عالمياً، هذا الفارق الهائل في السعر يخلق معضلة حقيقية لشركات الطيران، التي تسعى جاهدة للحفاظ على ربحيتها.
ومما يزيد الموضوع تعقيداً، أن السياسات الإقليمية غير المنسقة، مثل فرض حصص إلزامية في أوروبا، أدت إلى ظهور رسوم امتثال إضافية جعلت وقود الطيران المستدام أكثر تكلفة، مما يهدد بتجزئة السوق العالمية، ويعيق التبني واسع النطاق لهذه التقنية الحيوية، وبالتالي تجد الصناعة نفسها عالقة بين ضرورة خفض انبعاثاتها وبين الواقع الاقتصادي المرير الذي يجعل الحلول الخضراء باهظة الثمن.
 
معضلة الاستدامة: الأرقام خلف وقود الطيران المستدام SAF لعام 2025
 

القيمة المتوقعة

المؤشر لعام 2025

2.06  مليار دولار

حجم سوق وقود الطيران المستدام SAF

2 مليون طن

حجم الإنتاج

 0.7% فقط

نسبة التغطية من إجمالي احتياجات الوقود

أعلى بـ 4.2 مرة

التكلفة مقارنة بالوقود التقليدي

 4.4 مليار دولار

العبء المالي الإضافي على القطاع

المصدر: الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA) وتقارير أسواق الطاقة المتخصصة.
 
المسافر في حقبة ما بعد الجائحة والأثر المضاعف

على الرغم من كل هذه الرياح المعاكسة، يظل هناك جانب مشرق يتمثّل في قوة الطلب من جانب المستهلكين، فسلوك المسافرين في حقبة ما بعد الجائحة يظهر مرونة لافتة، حيث كشفت استطلاعات الرأي أن 40% من المسافرين يتوقعون السفر أكثر خلال الاثني عشر شهراً القادمة، وأن الرغبة في السفر لم تتأثر بشكل كبير بالمخاوف الاقتصادية، كما أظهر سفر الأعمال مرونة غير متوقعة، مدفوعاً بالحاجة إلى إعادة بناء العلاقات التجارية وجهاً لوجه، هذه الرغبة الكامنة في السفر هي التي تغذي محركات القطاع، وتدعم تعافيه، وهنا تبرز القيمة الحقيقية لقطاع الطيران كعامل تمكين اقتصادي ذي أثر مضاعف هائل.
قطاع الطيران ليس مجرد ناقل، بل هو المحرك الأساسي لقطاعات أخرى حيوية في الاقتصاد. فهو يدعم بشكل مباشر قطاع السياحة العالمي الذي يوفّر أكثر من 330 مليون وظيفة، كما أنه العمود الفقري للتجارة العالمية، حيث يتم نقل ما يقرب من 33% من قيمة التجارة العالمية جواً، وهو ما يعادل بضائع بقيمة 8 تريليون دولار في عام 2023، بما في ذلك السلع عالية القيمة، والحساسة للوقت مثل المعدات الطبية، واللقاحات، والمنتجات الغذائية الطازجة. إن كل رحلة طيران لا تحمل ركاباً وبضائع فحسب، بل تحمل معها فرصاً اقتصادية، وتفتح أسواقاً جديدة، وتعزز سلاسل التوريد العالمية، وتنسج خيوط الاقتصاد العالمي معاً في شبكة معقدة، ومترابطة، هذه الحقيقة تؤكّد على أن صحة قطاع الطيران ليست شأناً داخلياً، بل هي مؤشّر حيوي على صحة الاقتصاد العالمي بأسره. 
 
الأثر الاقتصادي المضاعف لقطاع الطيران
 

ملاحظات

القيمة

المؤشر/القطاع

يعمل كمحرك أساسي للسياحة والسفر الدولي.

توفير أكثر من 330 مليون وظيفة

دعم قطاع السياحة العالمي

يشمل سلعًا عالية القيمة وحساسة للوقت

نقل ما يقرب من 33% من قيمة التجارة العالمية جوًا

دعم التجارة العالمية

لعام 2023

8 تريليون دولار

قيمة البضائع المنقولة جوًا

يؤثر التأخير في التسليم على خطط التوسع والكفاءة

17,000 طائرة

طلبات الطائرات المتراكمة

مجلس النقل الجوي (Air Transport Action Group - ATAG) التقرير المرجعي: تقرير "Aviation: Benefits Beyond Borders" الذي يصدره ATAG
 
القيود التشريعية والتحليق في سماء من القوانين
 
يضاف إلى هذه التحديات تعقيد آخر يتمثّل في الشبكة الكثيفة من القيود التشريعية والتنظيمية التي تحكم كل جانب من جوانب عمليات الطيران، فشركات الطيران تعمل ضمن إطار قانوني صارم تفرضه هيئات الطيران المدني الوطنية والدولية، هذه القوانين، التي تهدف بالأساس إلى ضمان أعلى معايير السلامة والأمن، تفرض تكاليف امتثال باهظة تتعلق بصيانة الطائرات، وتدريب الأطقم، وتحديث الإجراءات الأمنية.
علاوة على ذلك، تتزايد صرامة التشريعات البيئية، التي تتجاوز مجرد أهداف الاستدامة الطوعية لتفرض ضرائب كربونية وأنظمة لتجارة الانبعاثات، مما يضيف عبئاً مالياً مباشراً على شركات الطيران، كما تخضع الشركات لقوانين حماية المنافسة التي تحد من قدرتها على الاندماج، أو عقد تحالفات استراتيجية، بالإضافة إلى لوائح حقوق المسافرين التي تفرض تعويضات مكلفة في حالات التأخير أو الإلغاء، إن هذا المشهد التنظيمي المتشعب يجبر شركات الطيران على التحليق بحذر شديد، حيث يمكن لأي تغيير تشريعي أن يعيد تشكيل نماذج أعمالها، ويؤثّر بشكل مباشر على قدرتها على تحقيق الأرباح في قطاع يتسم أصلاً بهوامشه الضيقة.
وهكذا، يقف قطاع الطيران العالمي على أرض تبدو صلبة للوهلة الأولى، مدفوعاً بطلب لا ينضب، ولكنه في حقيقة الأمر يحلق فوق طبقة رقيقة من الجليد الاقتصادي، إن اعتماده على متغيّرات متقلبة لتحقيق ربحية ضئيلة يجعله عرضة للصدمات، وفي قلب هذه المفارقة، تظهر الحاجة إلى نماذج عمل جديدة، ورؤى استثمارية طويلة الأمد لا تكتفي بالتحليق، بل تهدف إلى تغيير مسار الأجواء بأكملها.

نحو أفق جديد من المرونة والابتكار

إن التحليق بأرقام ركاب قياسية في مواجهة رياح اقتصادية، وجيوسياسية معاكسة هو شهادة على المرونة المتأصلة في قطاع الطيران، لكن الاعتماد على استقرار أسعار الوقود المتقلبة لتحقيق ربحية هامشية أشبه بالتحليق على ارتفاع منخفض في أجواء مضطربة، إن التحديات التي تم استعراضها، من تفكك سلاسل التوريد إلى التكلفة الباهظة للاستدامة، والقيود التنظيمية المتزايدة، ليست مجرد عقبات مؤقتة، بل هي ملامح العصر الجديد الذي يتطلب فكراً استراتيجياً مختلفاً.
ولضمان استمرارية هذا النبض الاقتصادي العالمي، على قادة الصناعة، وصناع السياسات التحول من مجرد إدارة الأزمات إلى هندسة المرونة، وهذا يتطلب عدة أمور منها:
- بناء تحالفات استراتيجية للاستدامة حيث يجب إنشاء إطار عالمي موحّد لتسريع إنتاج وقود الطيران المستدام (SAF)  توزيع تكاليفه بشكل عادل، مما يحول العبء إلى فرصة استثمارية مشتركة. 
- إعادة تصور لسلاسل التوريد مما يتطلب استثمارات جريئة، وتعاوناً دولياً لتعزيز شفافية ومرونة سلاسل التوريد، وتبني تقنيات التصنيع المتقدمة لتقليل الاختناقات، وضمان تدفق مستمر للطائرات، وقطع الغيار. 
- تبني التنظيم الذكي حيث يجب أن تتطور الأطر التشريعية لتصبح أكثر ديناميكية، بحيث توازن بين ضرورات السلامة، والأمن القصوى، وتشجيع الابتكار، والحد من الأعباء المالية غير الضرورية التي تعيق النمو في هذا القطاع الحيوي، فمستقبل الطيران لا يكمن فقط في تعافي أعداد المسافرين، بل في بناء قطاع قادر على امتصاص الصدمات، وتحويل التحديات إلى محفّزات للابتكار، فالرحلة نحو سماء أكثر استقراراً اًو اخضراراً تتطلب طموحاً، ورؤية عالمية مشتركة.
 
 
المقالة منشورة في "نشرة الاقتصاد" الصادرة عن جمعية الاقتصاد السعودية، عدد ربيع الأول 1447 هـ - سبتمبر 2025.