على الرغم من النمو الاقتصادي المتسارع الذي تعيشه المملكة في مختلف القطاعات، لا يزال حضور الشركات في ميدان المسؤولية الاجتماعية باهتًا ومتراجعًا عن مستوى إمكاناتها الضخمة ومكانتها الاقتصادية. فالمفهوم الذي يفترض أن يربط الربحية بالالتزام الأخلاقي تجاه المجتمع والبيئة، ما زال لدى كثير من الشركات مجرد لافتة تجميلية تُرفع عند الحاجة، ومبادرات تُدار بروح العلاقات العامة أكثر مما تُدار بروح الواجب الوطني. المسؤولية الاجتماعية ليست نثريات تُصرف في مواسم معينة، ولا شعارات تُرفع في المؤتمرات؛ إنها التزام استراتيجي يفرض على المؤسسات أن تضع أثرها في صلب نموذجها التشغيلي. لكن الواقع يكشف عن ممارسات تُضعف هذا البُعد وتفرغه من محتواه: غياب رؤى واضحة، غياب وحدات متخصصة تملك خبرة حقيقية في تصميم برامج تنموية، وضعف فاضح في الإفصاح والقياس يجعل معظم المبادرات أقرب إلى حملات استعراضية منها إلى مشاريع مؤثرة.
المجتمع اليوم لا يحتاج إلى مبادرات عابرة تعالج السطح، بل إلى استثمار اجتماعي جاد يبني قدرات الإنسان، ويعزز التعليم والابتكار، ويمكّن الفئات الأقل حظًا من أن تكون جزءًا من النمو بدل أن تبقى على هامشه. والشركات التي تُحقق أرباحًا مليارية لا يعفيها أي مبرر من أن ترتقي بمسؤوليتها تجاه المجتمع؛ فربحية بلا أثر ليست سوى صورة ناقصة للتقدم. كما أن الداخل المؤسسي يحتاج إلى ثورة مفاهيم، تبدأ بربط المسؤولية الاجتماعية بمؤشرات الأداء، وتمر بوضع معايير قياس دقيقة، وتنتهي بإفصاح شفاف يوضح ماذا قدمت كل شركة وما الأثر الذي أحدثته. أما استمرار الغموض والإنفاق غير الموجه فهو ترف لم يعد مقبولًا في بيئة تتقدم بسرعة وتتطلب من القطاع الخاص دورًا أكبر بكثير مما يقدمه اليوم. ولا يمكن تجاهل أن الشراكة الجادة بين القطاعين العام والخاص هي حجر الأساس لتحويل المبادرات الحالية إلى مشاريع تنموية مستدامة. وعلى الشركات أن تفهم أن المسؤولية الاجتماعية ليست خيارًا تسويقيًا، بل التزامًا وطنيًا يعزز ثقة المجتمع ويؤسس لبيئة اقتصادية أكثر قوة وعدالة.
في النهاية، يُقاس نضج الشركات اليوم ليس بحجم أرباحها أو توسعها، بل بمدى وفائها بواجبها تجاه المجتمع الذي صنع نجاحها. وما لم تنتقل الشركات من مرحلة التجميل إلى صناعة الأثر الحقيقي، فستبقى الحلقة الأضعف في معادلة التنمية الوطنية، وستظل المسؤولية الاجتماعية غائبة ولا تليق بحجم طموحات المملكة ولا بتطلعات مجتمعها.
نقلا عن جريدة الرياض

