بدأت فكرة تمديد ساعات تداول الأسهم تلقى قبولاً متزايداً حول العالم، كما يتضح من تقرير الاتحاد العالمي للبورصات الصادر قبل أيام، الذي ناقش جدوى انتقال أسواق الأسهم من الجلسات التقليدية المحدودة بالساعات النهارية إلى أي من النماذج التي يتم فيها التداول لمدة 22 أو 23 ساعة في اليوم، لخمسة أيام في الأسبوع! وأهمية هذا الموضوع بالنسبة إلى سوق الأسهم السعودية ليست في مجرد مجاراة الأسهم العالمية في هذا الجانب، بل في اتساع الفارق بين ميزة هذه الأسواق والسوق السعودية، ولا سيما أن هناك خروجا ملحوظا للأموال من السعودية إلى الأسهم العالمية!
في السعودية ومنطقة الخليج وبقية أسواق المنطقة، اعتادت البورصات على أوقات تداول أكثر تحفظاً، فنجد السوق السعودية (تداول) تعمل لـ5 ساعات في اليوم (من 10 صباحاً إلى 3 عصراً)، وبقية أسواق الخليج (كسوق دبي المالي، وسوق أبو ظبي للأوراق المالية، وبورصات الكويت وقطر وعمان)، تتبع نطاقات زمنية متقاربة، ولم يرد في تقرير الاتحاد العالمي للبورصات أي إشارة إلى مناقشة هذه الفكرة في أسواقنا.
غير أن المنافسة العالمية وظروف السوق المحلية قد تفرضان طرح هذا السؤال عاجلاً أم آجلاً، والعمل على إيجاد الحلول لتقليص التباين في تلك الفروقات. وقد حدد التقرير 3 دوافع رئيسية خلف التوجه نحو ساعات أطول للتداول، الأول هو الطلب المتزايد من المستثمرين الأفراد الذين اعتادوا على مرونة الخدمات الرقمية، ويرغبون في القدرة على التداول بعد ساعات العمل، والثاني هو الطلب من المستثمرين الأفراد في مناطق زمنية أخرى، خصوصاً في آسيا والمحيط الهادئ، ممن يسعون إلى وصول أسهل للأسواق الأمريكية والأوروبية، التي كانت دوماً ساعات التداول فيها مؤذية لهؤلاء المستثمرين! أما الدافع الثالث فهو المستثمرون المؤسساتيون الذين يحتاجون إلى التحوط أو تعديل محافظهم بسرعة للاستجابة للأحداث العالمية والتطورات الاقتصادية.
من المهم الإشارة إلى أن تمديد ساعات التداول ليس فكرة جديدة على الأسواق العالمية، فأسواق العقود المستقبلية، مثل بورصة شيكاغو، اعتمدت منذ التسعينيات نظام التداول الإلكتروني المستمر طوال اليوم تقريباً، بحيث يمكن للمستثمرين في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط التعامل مع العقود الأمريكية في ساعاتهم النهارية. كذلك سوق العملات الأجنبية (الفوركس) تعمل 24 ساعة يومياً، لمدة 5 أيام في الأسبوع، مستفيدة من تتابع المراكز المالية بين سيدني وطوكيو ولندن ونيويورك. ثم جاءت تجربة العملات الرقمية مثل البيتكوين، التي منذ بدايتها في العقد الأول من الألفية عملت بنظام 24/7 بلا توقف، لتثبت أن التداول المستمر ممكن تقنياً ومرغوب من قبل المتداولين، إلا أنه يحمل أيضاً تقلبات عالية ومخاطر للمستثمرين واختلافات في كيفية التعامل مع استمرارية التنفيذ، فيما يخص خرائط الأسعار وقراءة البيانات.
التقرير يوضح بشكل مباشر أن هناك تعقيدات عديدة عند تطبيق هذه النماذج على أسواق الأسهم، فالسيولة تميل إلى التركز في ساعات النهار، فيما تشهد الفترات الليلية ضعفاً يؤدي إلى اتساع الفوارق السعرية وتقلبات أعلى، ولا سيما أن أكثر هذه النماذج يعمل بلا صنّاع سوق في تلك الأوقات الإضافية. والأسواق تحتاج دائماً إلى سعر إغلاق يومي مرجعي لتسعير المؤشرات وتسوية الصفقات ولأغراض المراجعة والإفصاح، وهذه ستتغير طريقة عملها مع استمرار التداول. وهناك أيضاً تحديات تشغيلية وتقنية، إذ يجب على البورصات والوسطاء ومراكز المقاصة أن يحافظوا على أنظمة تعمل بلا توقف تقريباً، مع ضرورة توفير رقابة آلية وبشرية على مدار الساعة، وفيما بعد التداول، فالتحدي يكمن في إدارة الاقتراض على الهامش وحدود التداول اليومي المتاح للمضاربين، ثم هناك الحاجة للتعامل مع السيولة عندما تكون أنظمة الدفع والمصارف مغلقة خارج أوقات الدوام.
بالنسبة إلى السعودية وأسواق الخليج، فهذا النقاش يطرح تساؤلات إستراتيجية عديدة، فهل سيطالب المستثمر المحلي بخيارات تداول مسائية كما يحدث في أمريكا عبر منصات بديلة؟ وهل سيضغط المستثمر الدولي لتوحيد ساعات الأسواق الخليجية مع نظيراتها العالمية، خصوصاً مع سعي السعودية لتعزيز مكانتها كمركز مالي إقليمي وعالمي؟ وهل تملك البورصات الخليجية البنية التقنية والموارد البشرية اللازمة لإدارة ومتابعة الأسواق ليلاً ونهاراً؟ ثم ماذا عن المنافسة البينية الإقليمية؟ مثلاً، ماذا لو بادرت دبي أو أبو ظبي إلى تطبيق الجلسات المسائية أو التداول المتواصل على مدى 22 ساعة يومياً، هذا لا شك سيزيد الضغوط على السوق السعودية للحاق، علاوة على الظهور بموقف البورصة المتخلفة عن الآخرين.
مرة أخرى، التقرير يشدد على أن ساعات التداول الممتدة ليست حتمية ولا مناسبة لكل الأسواق، ولا سيما في أسواق كالخليجية، حيث الأولوية حالياً ما زالت لتعميق السيولة خلال الساعات القائمة، ومن غير الواضح حالياً كيف يمكن أن تتوزع السيولة مع ازدياد ساعات التداول! ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل الزخم العالمي في هذا الاتجاه، خصوصاً أن المشرعين الأمريكيين يناقشون بجدية فتح أسواق الأسهم على مدار الساعة، والمؤسسات المعنية بالمقاصة والتسوية بدأت في التكيف مع ذلك فعلياً، فإن تم ذلك فسيتعين على أسواق الخليج اتخاذ القرار الإستراتيجي المناسب: إما الاستمرار في النموذج التقليدي مع احتمال خسارة جزء من التدفقات الاستثمارية لصالح منصات أجنبية، أو الدخول تدريجياً في التجربة عبر فتح نوافذ مسائية تتقاطع مع أسواق آسيا! وحتى الآن لم تعلن "تداول" أو أي بورصة خليجية عن نيتها لتغيير ساعات التداول. والتجارب السابقة في العقود المستقبلية والفوركس وحتى البيتكوين تثبت أن التداول المستمر ليس مستحيلاً، بل أصبح واقعاً في بعض الأسواق، وبالتالي قد يفرض هذا الواقع الجديد على المنطقة إعادة النظر في هذه المسألة، لضمان قدرتها على المنافسة وجذب رؤوس الأموال محلياً ودولياً.
نقلا عن الاقتصادية
الاستمرار في النموذج التقليدي، يعني خسارة حصة سوقية متزايدة لصالح الأسواق العالمية والمنصات البديلة، خاصة مع تزايد توجه المستثمرين السعوديين نحو الاستثمار العالمي. أعتقد أن السوق السعودي يحتاج إلى نموذج هجين يتسم بالمرحلة التدريجية، حيث يمكن البدء بـ: تمديد محدود لساعات التداول (ساعة أو ساعتين إضافيتين) كمرحلة تجريبية/ تركيز التمديد على الأدوات المالية الأكثر سيولة مثل الأسهم الكبيرة وصناديق ETFs /إنشاء نافذة تداول مسائية متوافقة مع افتتاح الأسواق الآسيوية /تعزيز البنية التحتية التقنية وأنظمة الرقابة الآلية لدعم التداول المستمر