أجندة الوفرة

11/08/2025 0
د. عبدالله الردادي

برز مؤخراً مفهوم «أجندة الوفرة» باعتباره أحدَ أكثر المفاهيم الاقتصادية والسياسية إثارةً للنقاش في هذا العام، خصوصاً في الولايات المتحدة، حيث عدّ الكثير هذا المفهوم خريطة طريق للخروج من حالة الجمود التي تكبّل النمو، وتضعف ثقة المواطنين في قدرة الحكومات على الإنجاز، لا سيما في عالم تتسارع فيه أزمات السكن، وارتفاع أسعار أساسيات الحياة مثل التعليم والصحة والطاقة، ويعطي هذا المفهوم إجابةً على كيفية تحرر الاقتصادات من دائرة الندرة، ودخولها عصر الوفرة الحقيقية، فما هو مفهوم «أجندة الوفرة»؟ وما علاقته بسياسات الطلب والعرض الاقتصادية؟ ولماذا برز في هذا الوقت تحديداً؟

عند النظر إلى السياسات الاقتصادية، تبرز سياساتُ جانب الطلب بمنطلق أن الطلب هو المحرك الأساسي للنمو، وتقوم هذه السياسات على فكرة أن النمو الاقتصادي يتحقق من خلال تحفيز الإنفاق الكلي، وزيادة الطلب على السلع والخدمات. ولتحقيق ذلك، تلجأ الحكومات إلى أدوات مثل زيادة الإنفاق العام على البنية التحتية والخدمات، وخفض الضرائب على المستهلكين، وتيسير السياسة النقدية عبر خفض أسعار الفائدة. هذه السياسات عادة ما تعطي نتائج سريعة من خلال زيادة الاستهلاك والإنتاج، إلا أنها قد تؤدي إلى ضغوط تضخمية على المدى الطويل حال لم يواكب العرض زيادة في الطلب، وهي سياسة تتبع كثيراً من السياسيين الذين يسعون إلى زيادة شعبيتهم للحصول على مكاسب انتخابية.

في المقابل، تركز سياسات العرض على رفع القدرة الإنتاجية، بمنطلق أن الإنتاج هو أساس النمو، وتسعى هذه السياسات إلى تحسين كفاءة الاقتصاد من خلال دعم المنتجين والمستثمرين، وتعتمد على أدوات مثل تخفيف القيود التنظيمية، وخفض الضرائب على الشركات، وتشجيع الاستثمار في التعليم والابتكار، وتطوير البنى التحتية الإنتاجية. هذه السياسات قد تكون أبطأ في إظهار نتائجها، لكنها تهدف إلى تحقيق نمو مستدام من خلال زيادة الإنتاجية، وخفض تكاليف الإنتاج على المدى الطويل، وهي أقل خطراً من ناحية احتمالية التضخم، لكنها قد تتسبب في زيادة فجوة الدخل بين فئات المجتمع إذا لم تصاحبها سياسات عدالة اجتماعية.

بين تباين مدرستي العرض والطلب، يبرز مفهوم «أجندة الوفرة» مقاربةً جديدةً تسعى إلى المزج بين مزايا النهجين في إطار متوازن، وذلك بتبني فكرة زيادة القدرة الإنتاجية وتوسيع المعروض، ومن جانب الطلب إدارة أن الوصول العادل إلى الوفرة لا يقل أهمية عن إنتاجها، وفي جوهرها تعمل الأجندة على إزالة الحواجز التنظيمية التي تبطئ في تنفيذ المشاريع، مع ضخ استثمارات واسعة في قطاعات حيوية مثل الإسكان والطاقة النظيفة والبنى التحتية، ولا يمكن الاستهانة بالحواجز التنظيمية في تسهيل هذا النوع من المشاريع عموماً، ففي الولايات المتحدة وحدها، هناك ما قيمته أكثر من تريليون دولار من الاستثمارات معطّلة بسبب الحواجز التنظيمية.

وتركز أجندة الوفرة من الناحية الاقتصادية على خلق وفرة مادية حقيقية في السلع والخدمات الأساسية، بحيث تؤدي زيادة العرض إلى خفض الأسعار، وتحسين القدرة الشرائية، وتعزيز الإنتاجية، وهي لا ترى النمو في أرقام الناتج المحلي فقط، بل في انخفاض تكاليف السكن والطاقة والنقل، وفي قدرة الاقتصاد على تلبية احتياجات السكان بسرعة وكفاءة، ويسعى هذا النهج إلى كسر «عنق الزجاجة» الاقتصادي، الذي يحد من النمو عندما يتعطل العرض أمام الطلب، سواء كان ذلك في بناء مساكن جديدة أو إقامة أي مشاريع أخرى، وتنطلق الأجندة من معادلة واضحة، وهي أنه حين يختنق العرض ترتفع الأسعار ويتباطأ النمو وتضعف الإنتاجية، وحين يتدفق المعروض يتراجع التضخم ويتحفز الاستثمار وتزيد فرص الابتكار، ويأخذ قطاع الإسكان مثالاً واضحاً لذلك، فيمكن لتخفيف قيود البناء أن يطلق موجةً من المشاريع التي تخفض أسعار السكن، ويمنح الأسر قوةً شرائيةً أكبر، وهو ما سينعكس على النشاط الاقتصادي العام.

إن «أجندة الوفرة» تبدو منطقية من الناحية الاقتصادية حلاً للتوجه الاقتصادي الذي يبدو في مسار غامض في العديد من الاقتصادات، والمفهوم من الناحية السياسية ظهر كأنه أرضية مشتركة بين الأحزاب السياسية المتباعدة، فهو يلقى ترحيباً من التيارات اليسارية التي ترى فيه فرصةً لإثبات قدرة الحكومات على الإنتاج الملموس، ومن التيارات اليمينية التي تؤيد الإصلاحات التنظيمية بهدف تعزيز دور السوق، وقد برز هذا المفهوم أحد أكثر الموضوعات نقاشاً بعد أن أصدر الكاتبان الأميركيان إزرا كلاين وديريك تومبسون كتاب «Abundance» أو «الوفرة»، قبل عدة أشهر، في محاولات لبناء جسر لربط الرؤى الاقتصادية المتباينة، فيستعير المفهوم فلسفة تحرير السوق من اليمين، ويتبنى قناعة ضرورة تدخل الدولة لتوسيع الخدمات العامة وتحقيق الوصول العادل إليها من اليسار.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط