في عالم يتغير بوتيرة متسارعة، تبقى الاستراتيجية العنصر الحاسم في قدرة المؤسسات والحكومات على التكيف والبقاء في الصدارة فالاستراتيجية، كما تُعرّف علميًا، هي خطة شاملة وطويلة الأجل تُبنى لتحقيق أهداف محددة عبر تخصيص الموارد المتاحة بكفاءة، مع مراعاة الظروف البيئية الداخلية والخارجية. ويصفها هنري منتزبرغ بأنها "نمط في سيل من القرارات"، بينما يرى مايكل بورتر أنها "اختيار موقع تنافسي متميز من خلال مجموعة من الأنشطة المترابطة".
فهي ليست مجرد خطة بعيدة المدى، بل عقلية وممارسة مستمرة تُبقي الجهة قادرة على التفاعل مع البيئة الخارجية، ومواكبة التحولات، خصوصًا حين تتغير رؤى الحكومات وتتبدل أولويات التمويل، وقد جسدت أزمة جائحة كورونا هذا التغير بأوضح صوره، حيث أعادت معظم الحكومات حول العالم رسم أولوياتها، لا سيما في قطاع الصحة، مما أثر بشكل كبير على المحافظ الاستثمارية للمشاريع الأخرى.
فقد توجهت الحكومات لتخصيص ميزانيات ضخمة لدعم البنية التحتية الصحية، من بناء مستشفيات مؤقتة، وتوسعة وحدات العناية المركزة، إلى دعم سلاسل الإمداد للمواد الطبية، وتطوير خدمات الصحة الرقمية.
كما تم تخصيص مبالغ هائلة لتوفير اللقاحات وضمان توزيعها العادل، وتأسيس أنظمة إلكترونية مثل تطبيق "صحتي" ومنصات حجز المواعيد التي مكنت المواطنين من إدارة حالتهم الصحية عن بعد، وأتاحت الوصول إلى الخدمات الصحية بطريقة أكثر كفاءة واستجابة.
في المقابل، تم تعليق أو إلغاء مشاريع في مجالات النقل، السياحة، والبنية التحتية التقليدية لصالح دعم المبادرات الصحية العاجلة، وبرزت الحاجة إلى مرونة استراتيجية غير مسبوقة، إذ وجد مديرو المحافظ أنفسهم أمام واقع جديد يتطلب إعادة تقييم فورية لكافة المشاريع، وتصنيفها بحسب درجة توافقها مع التوجهات الصحية والتقنية الجديدة.
وكان على مديري المشاريع أن يطوّروا خطط طوارئ تتضمن خيارات متعددة لإعادة توجيه الموارد، والحفاظ على الكفاءات، وتقليل الخسائر. وفي ظل هذا التحول لم تعد الاستراتيجية مجرد وثيقة داخل الأدراج، بل أصبحت ممارسة يومية ترتكز على التنبؤ، والموازنة، والتحليل المستمر للواقع المتغير.
وأصبح النجاح في الإدارة لا يقاس بقدرة المدير على الالتزام بالخطة الأصلية، بل بقدرته على قيادة التغيير وتحويل الأزمات إلى فرص للنمو والتحديث، وأدركت المؤسسات أن الاستراتيجية الناجحة هي تلك التي تُبنى على بيانات دقيقة، ورصد يومي للتوجهات الحكومية، واستشراف للتحديات المستقبلية.
وهنا ظهرت أهمية الاستثمار في أدوات تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي، التي ساعدت مديري المحافظ في بناء قرارات سريعة ومدروسة في الوقت ذاته.
كما أن البنية الرقمية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من أي استراتيجية، لا سيما في القطاع الصحي، حيث أثبتت تطبيقات مثل "صحتي" و"توكلنا" و"موعد" أنها ليست مجرد أدوات تقنية، بل منظومات وطنية متكاملة تنقل الخدمات الصحية من الورق إلى الواقع الذكي، وتوفر الوقت، وتحسن جودة الخدمة، وتدعم شفافية القرار.
وفي خضم هذه التجربة، كان على القطاعين العام والخاص أن يعيدا النظر في آلية تمويل المشاريع، ومفاهيم العائد على الاستثمار، فلم يعد العائد ماديًا فقط، بل بات يشمل الأثر الاجتماعي والصحي والنفسي.
وتم إدخال مؤشرات تقييم جديدة للمشاريع تأخذ في الاعتبار مدى استجابتها للأزمات، ومرونتها في التكيّف، وقابليتها للتحول الرقمي. وخلاصة القول أن جائحة كورونا لم تغير فقط أولويات التمويل الحكومي، بل أعادت تعريف مفاهيم الاستراتيجية، والمخاطر، والجاهزية، وأعطت لمدير محفظة المشاريع دورًا قياديًا لا يقل أهمية عن صانع السياسات أو الخبير المالي.
ولعل الدرس الأهم أن الاستراتيجية لم تعد ترفًا تنظيميًا، بل ضرورة وجودية لكل مؤسسة تسعى للاستمرار وسط عالم لا يرحم المتباطئين. فالمشاريع التي لم تُبنَ على أسس مرنة، والتي لم تُحدّث وفق المتغيرات، هي أول من يسقط عند أول أزمة.
أما تلك التي دمجت التقنية بالصحة، وتسلّحت بتحليل البيانات، وفهمت التوجهات، فقد تحولت من عبء مالي إلى رافعة وطنية اقتصادية، لذا فإن مديري المحافظ اليوم هم جنود الصف الأول في معركة التطوير، وأدواتهم هي التحليل، والتكيف، والاتصال، والتخطيط المتجدد، واستراتيجيتهم هي البقاء على تماس مباشر مع نبض الدولة، وتحويل التمويل إلى منجزات، والرؤية إلى واقع ملموس.
وفي الختام، فإن المؤسسات التي تنجح في التكيف مع التحولات الصحية والسياسية والاقتصادية هي تلك التي تضع الاستراتيجية في قلب قراراتها، وتمارسها كفنٍّ يومي، لا كخطة على ورق.
خاص_الفابيتا