التوزيع النسبي للعقارات وارتفاع الأسعار

06/04/2025 0
د. محمد آل عباس

تعد الأرض (Land)، أهم عوامل الإنتاج، فلا شيء يمكنه أن يعمل ويحرك الإنتاج ومن ثم الاقتصاد أهم من الأرض، فالأرض لا غنى عنها لجميع الأنشطة الاقتصادية، فالصناعات بشتى أشكالها تحتاج إلى الأرض، فالصناعات التحويلية تحتاج إلى مساحاتٍ للمصانع، وقطاع الخدمات يتطلب أراضي للمكاتب، وشركات النقل والخدمات اللوجستية لا تعمل بدون طرقٍ وموانئ ومطارات، ومستودعات، حتى صناعات مثل التعليم والصحة، بل حتى تلك الصناعات التي قد يقال إنها لا تحتاج إلى الأرض مثل الصناعات الرقمية، نجد بمزيد من التمعن أنها لا تعمل بدون أرض للكيبل وأرض للسيرفرات وأرض للأجهزة، ورغم الاعتراف بهذا الحقيقة فإن المشكلة الأهم لم تتم مناقشتها بشكل مستفيض بين رواد علم الاقتصاد، ولا في مدارسه المختلفة، كم هي المساحة اللازمة لكل نشاط اقتصادي من مجموع الأراضي المتاحة للاستخدام، هذا السؤال والإجابة عنه يمثلان حجر الأساس لمعالجة مشكلة ارتفاع أسعار العقار.

هناك دراسات موسعة عن حجم العمالة، وعن حجم رأس المال، وعن الطاقة وغيرها، لكن قليلا (فيما أعرف) يناقش مسألة التوزيع الأمثل لمساحة العقار على الأنشطة الاقتصادية المختلفة، لعل هذا السؤال لم يكن مهما في اقتصادات ما قبل القرن الـ21، عندما كانت تكلفة الأرض هامشية في مقابل التكاليف الأخرى، لكنه صار مهما بعدما توجه العالم نحو العقار منذ مطلع القرن وظهور البنوك الاستثمارية التي ضخت التريليونات في العقار السكني من خلال القروض العقارية، وما صحب ذلك من سوق عالمية للسندات المرتبطة بها.

لقد أدى ذلك إلى ارتفاع الطلب على الأراضي التي يمكن تحويلها إلى مخططات سكنية، ومن ثم بناء المنازل وبيعها حتى أصبحت تكلفة العقار تتصاعد بشكل جنوني، لكن ما يحدث في أسعار الأراضي المخصصة للبناء والمساكن لا يحدث بمعزل عن مفهوم الأرض عموما ومفهوم العقار أيا كان شكله، فاذا ارتفعت الأراضي في أي جزء منها فإنها ترتفع في الأجزاء الباقية بنفس النسبة تقريبا، هذا المفهوم مهم جدا في التشريعات، والتقييم.

وبدون هذا الفرض يصبح التقييم لا معنى له، هنا تظهر المشكلة الخفية، وهي مشكلة القيمة العادلة للعقار، القيمة العادلة من أبسط المفاهيم في المحاسبة، لكنها أيضا من أخطرها، وقد سبق أن كتبت مقالا وضحت فيه الأثر الخطير لنموذج حساب القيمة العادلة في الأزمة المالية العالمية 2008، ما اضطر مجالس المحاسبة العالمية إلى إيقاف العمل بالمعايير المحاسبية ذات الصلة في أكبر تراجع لمهنة المحاسبة أمام الضغوط السياسية، ولتثبت للعالم وهم الاستقلال الذي طالما تشدقت به تلك المجالس.

مفهوم القيمة العادلة يؤكد أنه عند تقييم الأصول يجب الأخذ بأقرب قيمة حقيقية، سواء كانت السعر المعلن للأصل في السوق، مثل سعر السهم، أو أقرب سعر بيع لأصل مماثل، لذلك عند بيع عقار بسعر ما فإن باقي العقارات التي لم يتم بيعها ستعدل تقييمها فورا بنفس سعر البيع الجديد، لهذا فعند ارتفاع أسعار العقارات السكنية فإن العقارات الأخرى بشتى أشكالها سترتفع، وهنا لا تفرق السوق بين عقار تجاري وسكني وصناعي، بين إيجار مكتب وإيجار شقة، الجميع سيأخذ حصته من الارتفاع الجديد أو حتى الانخفاض.

فالمشكلة الأساسية الكامنة في النماذج الاقتصادية هي عدم القدرة على تحديد ماهية التوزيع الأمثل لمساحة العقار على الأنشطة الاقتصادية المختلفة وبالتالي معرفة التوزيع الأمثل للارتفاع في الأسعار.

هذا يقودنا إلى النتيجة الأهم وهي أن بعض سياسات التخطيط قد تؤثر في قرارات استخدام الأراضي، وإذا لم تكن تلك القرارات قد أخذت في الحسبان التوزيع النسبي للعقارات بين الأنشطة الاقتصادية، فإن أسعار العقار قد ترتفع في أي نشاط اقتصادي نظرا للشح في العقارات بما يقود السوق العقارية جميعا إلى الارتفاع بسبب الأثر المتراكم للتقييم الذي شرحته آنفا.

فالتخطيط الحضري يجب أن يأخد في حسبانه تطوير نماذج متقدمة للتوزيع النسبي للعقارات بين الأنشطة الاقتصادية، ولا يترك ذلك للعقاريين والمطورين، لأنهم سيتجهون (كرأسماليين) إلى ما يحقق أعلى عائد ممكن دون النظر إلى التوزيعات النسبية المهمة للعقارات بين الأنشطة، وهذا في الأخير سيتسبب في أزمة عقارية خانقة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية