سلسلة مقالات حول الاسثتمار الأجنبي المباشر: نشأته، نظرياته، وآثاره (4)

28/03/2025 0
د. علي بن جاسم الصادق

مقدمة

كما أشرنا في المقال السابق، يتأثر قرار الشركات متعددة الجنسية في الاستثمار خارج حدود دولة الأم بمجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها دول العالم. في أواخر عام 2019م، تسبب انتشار جائحة كورونا (COVID-19) في تحولات جذرية على مختلف الأصعدة، سواء على المستوى الصحي أو الاقتصادي، مما ترك تأثيرات كبيرة على الاقتصاد العالمي. من بين المجالات التي تأثرت بشكل كبير كانت سلسلة إمدادات البضائع وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. فمن جهه شهدت سلاسل الإمداد العالمية–التي تشمل الإنتاج والنقل والتوزيع للسلع والمواد الخام—اضطرابات هائلة نتيجة لتوقف الإنتاج، وفرض القيود على حركة العمال والبضائع والنقل، وتباطؤ النشاط التجاري، مما أدى إلى حدوث أزمات في توافر السلع في الأسواق العالمية. وفي الجهه المقابلة تعرضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة لضغوط كبيرة بسبب غموض المستقبل الاقتصادي العالمي. في هذا المقال، سنستعرض كيفية تأثير جائحة كورونا على تدفقات واتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر، وكيفية تحول الشركات نحو استراتيجيات جديدة تضمن استدامة إنتاجها مع تقليل المخاطر المستقبلية.

حالة من عدم اليقين

كما هو معلوم خلقت الجائحة حالة من عدم اليقين الاقتصادي على مستوى العالم. فقد انخفض الطلب العالمي على العديد من المنتجات والخدمات. تسببت هذه التقلبات الاقتصادية بخفض الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العديد من القطاعات فقد قامت بعض الشركات بتقليص أو إيقاف خطط التوسع في الأسواق الأجنبية. وبحسب التقرير السنوي للمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، شهدت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في 2020م انخفاضًا بنسبة 42% مقارنة بالعام السابق.

التأثير السلبي على سلسلة الإمداد

1. تباطؤ الإنتاج. مع بداية الجائحة، فرضت العديد من البلدان إغلاقًا جزئيًا أو كليًا للأنشطة الاقتصادية في محاولة للحد من انتشار الفيروس. أدى ذلك إلى توقف أو تباطؤ الإنتاج في العديد من الصناعات، بما في ذلك الصناعات التحويلية، والإلكترونيات، والسيارات، والسلع الاستهلاكية. فعلى سبيل المثال،

واجهت شركات الإلكترونيات الكبرى مثل أبل وسامسونغ صعوبة في الحصول على المكونات اللازمة لإنتاج هواتفها الذكية وأجهزتها الأخرى، مما أدى إلى تأخير طرح المنتجات الجديدة في الأسواق.

2. تعطل النقل والشحن. كانت سلسلة الشحن الدولي من أكثر الأنظمة التي تأثرت خلال الجائحة. مع الإغلاق المؤقت للعديد من الموانئ والمطارات، وتخفيض عدد الرحلات الجوية، وفرض قيود صارمة على حركة البضائع عبر الحدود، توقفت حركة الشحن البحري والجوي بشكل كبير في الأشهر الأولى من الجائحة مما أدى إلى ارتفاع تكاليف النقل وتأخير وصول البضائع.

3. تقليص عدد العمالة. اضطرت العديد من الشركات والمنشآت الصناعية حول العالم إلى تقليص عدد العمالة أو إغلاق المصانع مؤقتًا بسبب التباعد الاجتماعي وارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا. حتى في الحالات التي لم يتم فيها إغلاق المصانع، كان العمل بنصف القدرة أو تقليص ساعات العمل أمرًا شائعًا، مما أثر في قدرتها على الوفاء بالطلب المرتفع. هذا التأثير لم يقتصر على المصانع، بل شمل أيضًا قطاعات أخرى من تجارة التجزئة والخدمات. وفي بعض الحالات، كان من الصعب العثور على عمالة بسبب القوانين الصحية التي فرضت القيود على التنقلات والأنشطة الاقتصادية.

4. نقص المواد الأولية. توقف الإنتاج في العديد من الصناعات، بالإضافة إلى زيادة الطلب المفاجئ على بعض السلع أدى لحدوث نقص حاد في المواد الخام والسلع الأساسية. على سبيل المثال، مع بدء الجائحة، ارتفع الطلب على الأدوية والكمامات والأدوات الطبية بشكل كبير. كما حدث نقص في المواد الغذائية في بعض الأسواق بسبب تعطل سلسلة الإنتاج والتوزيع. هذا دفع العديد من الحكومات إلى فرض حظر تصدير المواد الغذائية والسلع الأساسية لضمان توافرها في الأسواق المحلية.

5. الضغط على سلاسل التوريد العالمية. مع زيادة الطلب على السلع والنقص في الإنتاج، ارتفعت أسعار بعض المنتجات بشكل ملحوظ، مما زاد الضغط على سلسلة التوريد في الأسواق العالمية. فعلى سبيل المثال، شهدت أسواق السيارات المستعملة ارتفاعًا غير مسبوق في الأسعار بسبب تعطل خطوط الإنتاج لنقص في الرقائق الإلكترونية التي كانت تُستخدم في السيارات حديثة الصنع. وفي بعض الحالات، لم تتمكن الشركات من الحصول على المنتجات أو المواد الخام المطلوبة في الوقت المحدد، مما تسبب في تأخير الإنتاج والتسليم للعملاء.

تحولات جديدة في استراتيجيات الإنتاج

نتيجة ذلك ولضمان استدامة خطوط الإنتاج في ظل التقلبات الاقتصادية والسياسية العالمية وبدلًا من الاعتماد على دولة واحدة أو منطقة جغرافية واحدة، ظهرت مفاهيم جديدة لسياسة الإنتاج لضمان عدم تعطل سلسلة الامدادات. من ضمن هذه المفاهيم هي تلك القرارات المتعلقة بمواقع الإنتاج التي تتخذها الشركات لتقليل

التكاليف، وتحسين الكفاءة، وتوسيع نطاق أعمالها. من بين هذه الاستراتيجيات الاستثمار المحلي أو الداخلي (Onshoring) والاستثمار القريب (Nearshoring) وذلك بدلًا من الاعتماد على الدول البعيدة (الاستثمار الخارجي ((Offshoring) في محاولة لتقليل المخاطر المرتبطة بتعطيل سلاسل الإمداد العالمية.

الاستثمار المحلي. هو استراتيجية تعتمد على نقل الأنشطة الإنتاجية أو تقديم الخدمات إلى داخل الدولة نفسها. بمعنى آخر، الشركات التي تعتمد هذه الاستراتيجية تختار القيام بالإنتاج أو تقديم الخدمات في بلدها الأم بدلاً من اللجوء إلى دول أخرى. ومن مزايا هذا النوع: 1) تقليل التكاليف اللوجستية: حيث تكون عمليات النقل أقل تكلفة، 2) زيادة السيطرة على الجودة: يمكن للشركات أن تتابع العمليات بشكل مباشر، 3) تحفيز الاقتصاد المحلي: من خلال توفير وظائف جديدة ودعم الأعمال المحلية. في المقابل قد تكون تكاليف الإنتاج في بعض الدول أعلى من الدول التي تعتمد على الاستيراد أو الإنتاج الخارجي. وكذلك ايضاً قد تواجه الشركات صعوبة في العثور على عمالة متخصصة محليًا.

الاستثمار القريب. وهو عبارة عن الانتقال إلى الدول القريبة جغرافيًا من البلد الأم لتقليل التكاليف اللوجستية، وتخفيف مخاطر سلسلة الإمداد، وتعزيز المرونة في مواجهة الأزمات المستقبلية. على سبيل المثال، بدأت الشركات في البحث عن دول قريبة لاستثمارها مثل الدول في شرق أوروبا أو أمريكا اللاتينية بدلاً من الاعتماد على دول في آسيا. هذه التغييرات تعكس تحولًا في التفكير حول كيفية تكييف استراتيجيات الاستثمار لتقليل المخاطر في المستقبل. ولكن من المشاكل التي تواجه هذه النوع من استثمار هو محدودية الخيارات. فقد تكون بعض الأسواق القريبة أقل تنوعًا من الأسواق البعيدة.

التحول الكبير واتجاهات الاستثمار الأجنبي المباشر

أدى تحول الشركات نحو الاستثمار القريب أو الاستثمار الداخلي إلى حدوث تغييرات جذرية في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر. قبل هذا التحول، كانت الشركات متعددة الجنسية تعتمد بشكل كبير على الإنتاج في الدول الآسيوية منخفضة التكلفة مثل الصين وغيرها. ومع زيادة التكاليف في هذه الدول، فضلاً عن المخاطر السياسية، زادت الشركات من اهتمامها بالاستثمار في دول قريبة جغرافيًا. قد تؤدي السياسات المتعلقة بالاستثمار الداخلي والاستثمار القريب إلى تقليص حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في بعض الدول النامية التي كانت تعتمد سابقًا على تصدير السلع. فقد شهدت الصين تراجعًا في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر نتيجة لانتقال بعض الشركات إلى أسواق قريبة مثل فيتنام، أو العودة إلى الدول الأم في أمريكا الشمالية وأوربا. يُعزى ذلك إلى تزايد تكاليف الإنتاج في الصين، إضافة إلى العوامل الجيوسياسية مثل

الحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، مما دفع الشركات إلى نقل استثماراتها إلى أماكن أكثر استقرارًا وتكلفة أقل (سنتاول هذا الموضع في مقال لاحق).

من الممكن أن تلعب دول الخليج وبالخصوص المملكة العربية السعودية، دورًا مهمًا في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة نتيجة لقربها الجغرافي من الأسواق العالمية في مختلف القارات. فبفضل موقعها الجغرافي الاستراتيجي ومواردها، لديها القدرة على الاستفادة من هذه التحولات لتكون مركزًا جذبًا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في مجالات مثل الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والقطاع الصناعي، مما يسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام.

 

 

خاص_الفابيتا