منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن رغبته في «استعادة» السيطرة على قناة بنما، أُثيرت التساؤلات حول دوافعه الحقيقية، سواء قبل أو بعد توليه الرئاسة، هذه الرغبة لم تكن مجرد تصريحات عابرة، بل تعكس رؤيته للعلاقات الدولية من منظور القوة الاقتصادية والاستراتيجية للولايات المتحدة، وفيما قد يرى البعض أن رغبة ترمب في السيطرة على قناة بنما تشابه الرغبة في ضم كندا وغرينلاند إلى الولايات المتحدة، إلا أن حالة قناة بنما مختلفة كلياً حتى مع تشابه الأسلوب في المطالبة بها، واستخدم لهذه المطالبة تكتيكات مختلفة للوصول لمبتغاه.
لفهم أبعاد هذا النزاع، يجب العودة إلى التاريخ، فقد بدأ العمل في القناة عام 1904 واكتمل في 1914، وكان ذلك بأيدي مهندسين أميركيين، وبدعم كامل من حكومة الولايات المتحدة، بتكلفة قاربت 375 مليون دولار، أي ما يساوي الآن نحو 11 مليار دولار. وكانت من أعظم الإنجازات الهندسية في ذلك العصر، وأكبر مشروع للبنى التحتية حتى ذلك الحين في الولايات المتحدة. وبموجب هذا المشروع، سيطرت الولايات المتحدة بشكل كامل على منطقة القناة، وهو ما حوّل بنما إلى مركز نفوذ أميركي واضح. وظلت الولايات المتحدة تدير القناة لعقود، مستفيدة منها اقتصادياً وعسكرياً، دون أي فائدة تُذكر لبنما، وهو ما سبّب مشاكل عدة بين البلدين، حتى نهاية السبعينات الميلادية، إبان رئاسة جيمي كارتر، حين وقعت معاهدة بين بنما والولايات المتحدة تُسلم بموجبها القناة إلى بنما، واكتمل هذا التسليم عام 1999 في رئاسة بيل كلينتون.
يرى ترمب أن هذا التسليم يعد خطأً جسيماً وقد وصفه بالغباء، وصرّح بأن القناة من حق الولايات المتحدة، إذ إنها هي التي بَنتها بالكامل. وليعطي الولايات المتحدة الحق الشرعي في «استعادتها» جاء أول تكتيكات ترمب، فادعى أن بنما خالفت المعاهدة، وذلك بأنها أدخلت طرفاً يمكنه التحكم بالقناة وهي الصين. والقلق الأميركي في هذا الجانب بدأ منذ انضمام بنما إلى مبادرة «طريق الحرير» الصينية، وزاد بعد أن سحبت بنما اعترافها الدبلوماسي من تايوان إلى الصين عام 2017، كما أن بنما وقّعت اتفاقيات مع شركات صينية لتشغيل القناة في عام 2021، مما أعطاها حق تشغيل القناة لـ25 عاماً. هذا التمدد الصيني، سواء على مستوى الاستثمارات في البنى التحتية في القناة، أو تشغيل المواني على طرفي القناة، يُشكل خطراً استراتيجياً من وجهة النظر الأميركية.
وحتى مع نظرة أن القناة هي مسار استراتيجي وحيوي مهم جداً في خريطة التجارة العالمية لا يُراد للصين السيطرة عليه، إلا أن مصلحة أميركا الاقتصادية في القناة يستحيل إغفالها، فمن بين نحو 270 مليار دولار من البضائع السنوية التي تمر على القناة، وقرابة 14 ألف سفينة سنوياً، فإن 75 في المائة من ذلك إما يأتي وإما يذهب إلى الولايات المتحدة. ويرى ترمب أن بنما تفرض رسوماً باهظة على هذه السفن، وبحسب منطلقه وهو «نحن بنيناها ونحن نستخدمها»، فإن هذه الرسوم فيها إجحاف بحق بلده.
انتقل ترمب بعد ذلك إلى التكتيك الثاني، وهو المفاوضات مع بنما، لتقليل نفوذ الصين على القناة، واستخدم تكتيكاً ثالثاً، وهو طرح الخيار العسكري في حال فشلت هذه المفاوضات لفرض ضغوطات إضافية، ومع رفض بنما القاطع لتسليم القناة لأميركا، والتأكيد على سيادة بنما في القناة، إلا أن ترمب حقق مكتسباً من هذا الضغط بانسحاب بنما من مبادرة «طريق الحرير»، بل ومراجعة جميع عقود المواني الممنوحة للشركات الصينية.
ويبدو أن ذلك كله كان للوصول إلى حل يخدم التوجّه الاستراتيجي والتجاري للرئاسة الأميركية، فقد تقدمت مجموعة استثمارية بقيادة شركة «بلاك روك» الأميركية بعرض لشراء المواني الخاضعة للملكية الصينية بقيمة 22.8 مليار دولار، وهي صفقة إن تمت ستُعد انتصاراً للولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الصيني الزائد. وبالطبع فإن صفقة بهذه القيمة، لم تكن لتُدرس خلال أقل من شهرين من تولي ترمب مقاليد الرئاسة، وهو ما يؤكد أن الرئيس ترمب أثار هذه القضية وهو قد جهّز الحل الذي يناسبه، واستخدم تكتيكات عدة وعلى مراحل مختلفة حتى يكون الحل الذي تقدم به هو ما يخدم جميع الأطراف، فالشركات الصينية تحصل على مبلغ مُجزٍ مقابل الموانى الخاصة بها، مع حفظ ماء الوجه بالتأكيد، وبنما تبتعد عن الصدام السياسي أو العسكري مع الولايات المتحدة وهي في غنى عنهما، والولايات المتحدة تسيطر على القناة، وتستفيد من عوائدها عن طريق شركاتها.
نقلا عن الشرق الأوسط