التأشيرة الذهبية

11/03/2025 0
د. عبدالله الردادي

لطالما شكَّلت برامج «التأشيرات الذهبية» محوراً للجدل في السياسات الاقتصادية والهجرة العالمية، إذ تسعى الدول إلى استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية عبر منح الإقامة أو حتى الجنسية مقابل استثمارات مالية. عاد هذا الموضوع للنقاش مرة أخرى على ضوء طرح الرئيس دونالد ترمب برنامج «التأشيرة الذهبية»، الذي سيتيح للأفراد شراء الإقامة والجنسية الأميركيتين مقابل خمسة ملايين دولار، مما أثار تساؤلاتٍ حول الجدوى الاقتصادية لهذا الطرح ومدى التزامه بالإطار القانوني، خصوصاً أنه لم يكن مرتبطاً بمساهمة اقتصادية واضحة على غرار برنامج تأشيرة المستثمر الحالية، الذي يفرض على المتقدمين استثمار ما بين 800 ألف ومليون دولار في مشاريع اقتصادية وخلق فرص عمل للمواطنين الأميركيين، بينما لا يشترط برنامج ترمب أي اشتراطات من هذا النوع.

برامج الهجرة الاستثمارية ليست ابتكاراً أميركياً، وتعود إلى عام 1984 عندما أطلقت دولة سانت كيتس ونيفيس أول برنامج يمنح الجنسية مقابل استثمار مالي. سرعان ما تبنت دول أخرى هذه السياسة، مثل كندا، والبرتغال، ومالطا، واليونان، حيث أصبحت هذه البرامج وسيلة فعالة لتعزيز التنمية الاقتصادية. ومع تشابه أسمائها، إلا أن هذه البرامج تختلف في متطلباتها؛ ففي كندا، يتعين على المستثمرين إيداع 1.2 مليون دولار كندي في سندات حكومية غير قابلة للاسترداد، بينما في البرتغال يكفي استثمار 280 ألف يورو في العقارات أو في مشاريع ترميم المباني القديمة للحصول على الإقامة. أما اليونان فهي تقدم تأشيرتها الذهبية مقابل استثمار بنحو 250 ألف يورو، مما جعلها واحدة من الوجهات الأكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب نظراً لانخفاض الحد الأدنى المطلوب.

وقد شهد الطلب على هذه التأشيرات ارتفاعاً ملحوظاً في العقود الأخيرة، لا سيما بعد الأزمات الاقتصادية والاضطرابات السياسية في كثير من الدول. فبعد الأزمة المالية العالمية في 2008، ازداد اهتمام الأثرياء بالبحث عن ملاذات آمنة لاستثماراتهم وأسرهم، كما أن عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول، دفع كثيرين إلى البحث عن خيارات إقامة بديلة في أوروبا وأميركا الشمالية. على سبيل المثال، شهدت برامج التأشيرة الذهبية في البرتغال واليونان ارتفاعاً كبيراً في عدد المتقدمين من دول مثل الصين وتركيا وروسيا، حيث يسعى المستثمرون إلى تأمين مستقبلهم وأصولهم المالية في بيئات أكثر استقراراً، ولكن السؤال هو: هل حققت هذه البرامج عوائد اقتصادية توازي الجدل الذي يرتبط بها؟

الواقع أن بعض هذه البرامج أسهم في تحقيق إيرادات ضخمة في بعض الدول، كما هي الحال في سانت كيتس ونيفيس، حيث شكَّلت عائدات برامج الجنسية جزءاً كبيراً من الميزانية العامة، مما أتاح للحكومة تعزيز إنفاقها على البنية التحتية والخدمات، لا سيما أن البلاد كانت للتوِّ قد استقلت عن بريطانيا وكانت في حاجة إلى هذا الدخل، كما حقق كثير من هذه الدول عوائد -إن صح التعبير- من التأشيرات الذهبية التي منحتها، ولكن هذه البرامج والسياسات لا تخلو من الآثار السلبية؛ فمن بعض تبعاتها أنها أدت في بعض البلدان، مثل البرتغال واليونان، إلى ارتفاع حاد في أسعار العقارات، مما تسبب في أزمة إسكان خانقة أثَّرت سلباً على السكان المحليين الذين لم يعد بإمكانهم تحمل تكلفة شراء منازل في مدنهم. وفي بعض الدول، مثل إسبانيا، أدت هذه البرامج إلى احتجاجات شعبية ضد ارتفاع أسعار العقارات وتأثير الأثرياء الأجانب على السوق العقارية المحلية، ولم تمضِ حتى الآن سنة على الاحتجاجات الإسبانية على السيّاح في إجازة الصيف، التي كان دافعها الأساسي غلاء تكلفة الاستئجار.

وقد كشف تقرير مشترك لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» و«مجموعة العمل المالي» عن أن بعض هذه البرامج قد استُغل في عمليات غسيل الأموال والتهرب الضريبي بل حتى في الفساد؛ فبعض المستثمرين يستخدمونها وسيلة لإخفاء أصولهم أو تجنب الضرائب المستحقة في بلدانهم الأصلية، بينما قد يلجأ آخرون إلى هذه البرامج للحصول على هوية جديدة تتيح لهم التنقل بحرية أو فتح حسابات مصرفية خارجية بعيداً عن التدقيق المالي. أمام هذه المخاطر، شدَّدت بعض الدول أنظمتها أو حتى ألغت هذه البرامج بالكامل، كما حدث في المملكة المتحدة وكندا، كما أن الاتحاد الأوروبي بدأ في فرض قيود صارمة على هذه البرامج، خصوصاً فيما يتعلق بالمخاطر الأمنية المحتملة التي قد تترتب على منح الجنسية للأفراد دون تدقيق كافٍ في خلفياتهم المالية أو الجنائية.

أما تأشيرة ترمب الذهبية، فهي على الأغلب لن تفي بوعودها، فهو يطمح إلى «بيع» مليون تأشيرة ذهبية، ليحقق نحو 5 تريليونات دولار، والهدف المعلن من ذلك هو خفض الدين الأميركي، ولكنَّ هذا العدد طَموح جداً و«سعر» التأشيرة مرتفع للغاية مقارنةً بالفوائد الناتجة عنها، ومقارنةً بما تقدمه برامج الدول الأخرى، وحتى هدف هذا البرنامج محدود، كونه لا يقدم أي مكسب مستدام للبلاد. والغريب أن هذه البرامج تُهاجَم عادةً من التيارات المحافظة ومن الشعوبيين كذلك، والذين يرون أن الجنسية أو المواطنة أقرب للهوية، إلا أن مبرر الاستثمار والمصلحة العامة على المدى الطويل دائماً ما يكون الحجة المضادة، ولكن برنامج ترمب جاء ممن ينتسبون للتيار المحافظ، وهو شعوبي حسب شعاراته، ومع ذلك، فهو أعطى حق المواطنة مقابل المال فقط، دون أي فائدة طويلة المدى!

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط