شهدت علاقات المستثمرين تطورًا كبيرًا على مر العقود، حيث تحولت من وظيفة اتصال تقليدية تركز على الإفصاح المالي، إلى ركيزة استراتيجية تعزز من مفهوم التواصل الفعال بين الشركات ومساهميها، وتحقق نجاح الشركات وترسخ استدامتها وتبني ثقة مستثمريها. هذا التحول كان مدفوعاً بتغيرات جوهرية، مثل توسع الأسواق المالية، وتطور الأطر التنظيمية، وارتفاع سقف توقعات المجتمع الاستثماري وأصحاب المصلحة، وبالنظر حول أهمية علاقات المستثمرين، سنتطرق في سلسة عدد من المقالات بالحديث حول علاقات المستثمرين، وماهيتها وكيف تحولت إلى أداة أساسية تسعى إلى تعظيم ثقة المستثمرين وتعزز من مكانة الشركات المدرجة، وكيف تأثرت خلال العقد الأخير ببعض التطورات مثل الرقمنة والمرونة والتي فرضت واقعًا جديدًا، إلى جانب تصاعد أولويات ممارسات الاستدامة، وتعزيز الحوكمة والشفافية كعوامل رئيسية لتعزيز الثقة بين الشركات والمستثمرين.
الجذور التاريخية لعلاقات المستثمرين
رغم أن وظيفة علاقات المستثمرين تعد حديثة نسبياً وغالباً ما ترتبط بالشركات المساهمة، إلا أنه وبالعودة إلى السياق العالمي والجذور الأولى لنشأتها، يُذكر بأن أول شركة يمكن تسميتها بشركة مساهمة هي شركة الهند الشرقية الهولندية التي تأسست في عام 1600م. كما أن بعض المصادر الأخرى تشير إلى أن أقدم شركة مساهمة هي الشركة السويدية "ستورا كوبربيرج" للتعدين، والتي أصدرت أول أسهم لها في العام 1288م في القرن الثالث عشر، أما في الولايات المتحدة، فتعتبر شركة "بوسطن للتصنيع"، التي تأسست عام 1814م، أول شركة عامة.
وفي نفس السياق، يعود تأسيس أول شركة مساهمة في المملكة العربية السعودية في 11 مارس 1926م، وهي الشركة المساهمة السعودية الوطنية لسير السيارات، إن هذا التسلسل التاريخي يعكس كيف انتشر مفهوم الشركات المساهمة تدريجياً ليعكس تطوراً اقتصادياً استراتيجياً يدعم التواصل بين المستثمرين والشركات.
البداية المنهجية لعلاقات المستثمرين
تبرز أهمية ذكر هذا السياق التاريخي في أن طبيعة علاقة الشركات بمستثمريها ليست فكرة جديدة كلياً، لكنها بدأت تأخذ شكلاً منهجياً في أوائل القرن العشرين، خلال ذروة الثورة الصناعية الثانية، والتي شهدت طفرة اقتصادية اتسمت بالنمو السريع.
وبدأت الشركات خلال تلك الفترة بالاعتماد على الأسواق المالية سعياً منها لجمع رؤوس الأموال وتمويل توسعاتها ونموها، مما كشف عن الحاجة الماسة لتوفير قنوات تواصل موثوقة مع المستثمرين. إلا أن بيئة الأعمال حينها كانت تفتقر إلى ممارسات الإفصاح المنهجية والشفافة، مما أدى إلى انتشار تقارير مالية غير متسقة وغياب المعلومات الدقيقة حول أداء الشركات واستراتيجياتها.
وبالنظر إلى البدايات الأولى من العام 1930 وحتى 1950م، برز مفهوم علاقات المستثمرين بعد أزمة الكساد الاقتصادي التي تلت انهيار سوق الأوراق المالية في الولايات المتحدة في أواخر عشرينيات القرن العشرين، والتي سلطت الضوء على أهمية الإفصاحات المالية الموثوقة، حيث تبع ذلك قيام هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية(SEC) بإصدار لوائح تنظيمية، مثل قانون سوق الأوراق المالية لعام 1934م، الذي أرسى الأساس لمفهوم الإفصاح المستمر والشفافية، مما دفع الشركات إلى إنشاء أقسام تعنى بتلبية متطلبات الامتثال وتعزيز التواصل مع المساهمين.
نشأة وظيفة علاقات المستثمرين الحديثة
في عصر النمو المبكر من العام 1950 إلى 1970م، أدى الانتعاش الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية إلى تعزيز دور علاقات المستثمرين، حيث توسعت قاعدة المستثمرين من المساهمين الأفراد لتشمل المستثمرين ذوي السلوك الاستثماري المؤسسي مثل صناديق التقاعد والاستثمار، حيث بدأت الشركات في إدراك الأهمية الاستراتيجية لعلاقات المستثمرين ليس فقط لضمان الامتثال، بل أيضاً لبناء ثقة طويلة الأمد مع مختلف أنوع المستثمرين.
وبطبيعة الحال، خلقت تلك التطورات فجوة بين الشركات ومستثمريها أدت إلى ضعف المصداقية وزيادة التكهنات بين المستثمرين. ومع تزايد تعقيد الأسواق المالية واحتياج المستثمرين إلى مصادر موثوقة للحصول على معلومات دقيقة، برزت الحاجة إلى البحث عن إنشاء قنوات مؤسسية تعزز الشفافية وتضمن تواصلاً فعالاً بين الشركات المدرجة ومستثمريها. وتفعيل دور وظيفة علاقات المستثمرين.
خلال العام 1953م، بعد ما يقرب من 150 عامًا بعد أول تأسيس لشركة عامة في الولايات المتحدة، قام رئيس شركة جنرال إلكتريك "رالف كوردينر"، بإحداث نقلة نوعية في علاقات المستثمرين. حيث أدرك كوردينر الفجوة القائمة والتحديات الكبيرة والتطورات الجديدة التي تفرضها الشركات المدرجة للتنافس على جمع رؤوس الأموال، وأهمية الحاجة إلى وظيفة جديدة لإدارة التواصل مع المستثمرين، أخذاً بعين الاعتبار تقييم الطريقة المناسبة لتواصل الشركات مع مستثمريها.
كانت الممارسات السائدة آنذاك تعتمد إما على العلاقات العامة، التي كانت تُعتبر نشاطًا تسويقيًا بمهارات مالية محدودة، أو على الإدارة المالية للتواصل مع المستثمرين، والتي قد تفتقر إلى مهارات الاتصال اللازمة للتعامل مع المستثمرين بفعالية. وفي كلا الحالتين، قد ينطوي على تلك الممارسات بعض المخاطر، والتي قد تساهم بنقل معلومات غير مكتملة ودقيقة حول الشركة واستراتيجياتها التشغيلية للمستثمرين.
ولتجاوز هذه العقبات، حينها بادر كوردينر وتركزت توجهاته وأولياته إلى محاولة إنشاء وظيفة جديدة متخصصة في التواصل مع المستثمرين، تقوم على فهم هوية المستثمرين، وتحديد متطلباتهم، واختيار أفضل الطرق للتواصل معهم. وهكذا أصبح مفهوم "علاقات المستثمرين" واقعًا فعليًا وملموساً كوظيفة مستقلة ومتكاملة لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة.
وانطلاقاً من الأهمية المتزايدة حول أدوار علاقات المستثمرين، تم تأسيس المعهد الوطني لعلاقات المستثمرين (NIRI) في عام 1969م، والذي يهدف إلى تعزيز وتطوير مستوى الممارسة المهنية لعلاقات المستثمرين، كما أصبحت التقارير السنوية أداة رئيسية للتواصل، مما رسخ الشفافية كعنصر أساسي في ممارسات علاقات المستثمرين.
تاريخ علاقات المستثمرين وتطورها خلال العقد الأخير
في عصر العولمة من العام 1980 إلى 1990م، مع تحول الأسواق المالية وتوسعها عالمياً وزيادة حجم الاستثمارات الأجنبية، تطورت علاقات المستثمرين لتلائم تلك المتغيرات وتلبي تطلعات جميع فئات المستثمرين، حيث أتاحت التطورات التقنية في حينها مثل تأسيس منصة بلومبيرغ في العام 1981م إلى تمكين التواصل ونشر المعلومات المالية بشكل أسرع وأكثر كفاءة، مما عزز تفاعل الشركات مع المستثمرين حول العالم. كما برزت مفاهيم وأساليب جديدة في حينها للتواصل مثل مكالمات الأرباح والجولات الترويجية والمؤتمرات الاستثمارية كوسائل رئيسية لبناء علاقات أقوى مع المستثمرين.
ومع بداية الثورة الرقمية والتطورات التنظيمية من العام 2000م وحتى اليوم، أحدثت تلك البداية تحولاً جذرياً في ممارسات علاقات المستثمرين، حيث تمكنت الشركات من مشاركة المعلومات الجوهرية فوراً وقت حدوثها، من خلال قنوات الإفصاح الرسمية ومواقعها الإلكترونية وتقاريرها الرقمية، كما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي كقناة جديدة للتواصل غير الرسمي مع المستثمرين، مما عزز من قدرة الشركات على التفاعل السريع والمباشر، وساهمت أدوات التحليل الرقمي في مساعدة الشركات على مراقبة تطلعات المستثمرين وتحليل سلوكهم بشكل أكثر دقة.
وفي الوقت نفسه، برزت تحولات كبيرة في الأطر التنظيمية لعلاقات المستثمرين، مدفوعة بالأزمات والفضائح المالية لبعض الشركات الكبرى التي أثرت سلباً على ثقة المستثمرين، وأدت إلى تغيرات جذرية في قوانين الحوكمة المؤسسية، حيث كشفت بعض الفضائح المحاسبية والاحتيال عن نقاط ضعف خطيرة في الإفصاح المالي والحوكمة المؤسسية مثل ما حصل في أواخر العام 2001م لشركة "إنرون" وذلك بتسجيلها لأرباح المبيعات المتوقعة من مشاريعها على قائمة الدخل قبل تحقيقها الفعلي، وتبع ذلك فضيحة أخرى لأكبر عملية غش محاسبي بتاريخ الولايات المتحدة حينها في منتصف العام 2002م لشركة "وورلدكوم"، حيث تبين أن أصول الشركة مضخمة بأكثر من 11 مليار دولار، أدى تلك الفضائح إلى إفلاس الشركتين وترتب عليها خسائر هائلة للمستثمرين، تلك الممارسات دفعت الحكومات والهيئات التنظيمية إلى تغييرات تنظيمية صارمة، مثل تطبيق قانون "ساربينز-أوكسلي" لعام 2200م، والذي بدوره كان نقطة تحول رئيسية في ممارسات علاقات المستثمرين. إذ شدد هذا القانون على ضرورة الإفصاح الكامل والشفافية في التقارير المالية، كما فرض قيودًا صارمة على عمل لجان التدقيق وممارسات الإدارة.
وشهدت هذه الفترة أيضًا بروز نشاط المستثمرين، حيث بدأ المستثمرون في لعب دور أكثر تأثيرًا في حوكمة الشركات. هذا النشاط دفع الشركات إلى تبني استراتيجيات تواصل استباقية مع المستثمرين، لضمان الحفاظ على الثقة وتعزيز الشفافية.
خاص_الفابيتا