تملُّق الشركات الأميركية!

20/01/2025 0
د. عبدالله الردادي

يبدأ اليوم دونالد ترمب فترته الثانية لرئاسة الولايات المتحدة، والعالم يترقب هذه البداية التي لا شك أنها ستكون ناريّة. فترة ترمب الثانية ستغير الكثير؛ ولذلك فقد غيّرت العديد من الشركات من سلوكها حتى قبل توليه الرئاسة، استعداداً لهذه المرحلة التحوّلية. وصل هذا التغيّر في بعض الأحيان إلى درجة التملّق للرئيس الجديد، فما هي التغييرات التي شهدتها الشركات الأميركية؟ وهل يمكن للرئيس الجديد أن يضر بها؟ وهل تعد هذه التغييرات نفاقاً أو تملّقاً؟

بدايةً، فإن التحول الذي يشهده سلوك الشركات الأميركية مدفوع بشكل واضح وصريح برغبة التوافق مع سياسات الإدارة الجديدة. وتاريخياً، كانت الشركات تميل إلى تبني موقف حيادي أو الانخراط في جهود ضغط غير مباشرة، ولكن رئاسة ترمب دفعت نحو نهج أكثر مباشرة واستراتيجية؛ فسعت الشركات إلى التماشي مع أجندة: «أميركا أولاً» و«جعل أميركا عظيمة مرة أخرى». ولكن بعض هذه التصرفات وُصفت بالتملق، لا سيما «أمازون» و«ميتا»؛ فالأولى دفعت 40 مليون دولار مقابل صفقة حصرية لبرنامج وثائقي اسمه «خلف الكواليس» من إنتاج زوجة الرئيس المنتخب، والثانية غيّرت لهجتها بشكل كامل حول مراقبة المحتوى، بل هاجمت الرئاسة السابقة بسبب ضغوطاتها لتوجيه محتوى منصات «فيسبوك» و«إنستغرام». والكثير من الشركات تبرعت للجنة تنصيب الرئيس الجديد، كما التزمت «أمازون» ببث مباشر لحفل التنصيب على منصة «برايم». وقد عدلت بعض الشركات مواقفها العلنية بشأن العديد من القضايا، مثل التجارة والتغير المناخي والمساواة في بيئات العمل.

كما بدأت شركات عديدة باتخاذ خطوات واضحة لإرضاء إدارة ترمب؛ إذ أعلنت العديد منها عن استثمارات بارزة في التصنيع المحلي وخلق الوظائف وإعادة رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة، مما جعل رسائلها تتماشى مع المواضيع الرئيسة لترمب. ولم تكن هذه التحركات اقتصادية فحسب، بل كانت تهدف أيضاً إلى تجنب الانتقادات العلنية من ترمب الذي كان له تاريخ في استهداف الشركات مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كما شارك العديد من قادة الشركات في حوارات مباشرة مع الإدارة من خلال الانضمام إلى مجالس استشارية، والسعي إلى اجتماعات منتظمة مع مسؤولي البيت الأبيض.

وتبرر تصرفات الشركات من واقع أن رئاسة ترمب السابقة جلبت مزيجاً من الفوائد والتحديات لهذه الشركات؛ فمن ضمن أهم الفوائد كانت الإصلاحات الضريبية الشاملة التي خفضت معدل الضرائب على الشركات من 21 إلى 15 في المائة للتصنيع المحلي، وقد قدم هذا الإجراء حافزاً مالياً كبيراً للشركات للاحتفاظ بعملياتها وأرباحها داخل الولايات المتحدة، مما خلق بيئة أكثر دعماً للأعمال. كما كان تقليل التنظيمات ميزة أخرى؛ إذ خففت إدارة ترمب القيود المفروضة على إنتاج الطاقة والإشراف المالي. وتضمنت السياسات مثل استعادة تصاريح الغاز الطبيعي المسال وتخفيف تطبيقات لجنة الأوراق المالية والبورصات، تقليل تكاليف الامتثال ومنح الشركات مزيداً من المرونة التشغيلية. بالإضافة إلى ذلك، خلق تخفيف تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار وإجراءات لجنة التجارة الفيدرالية فرصاً جديدة للاندماجات والاستحواذات، مما مكّن الشركات من السعي إلى عمليات توحيد استراتيجية.

ومع ذلك، فقد قدمت رئاسة ترمب أيضاً مخاطر كبيرة وحالة من عدم اليقين للشركات، ضمن ذلك ميل ترمب لاستهداف شركات معينة علناً، كما حدث مع شركتَي «هارلي ديفيدسون» و«دلتا»؛ هبطت على أثرها أسهم الأولى بنحو 10 في المائة بعد أحد تصاريح مباشرة. وقد خلق هذا السلوك بيئة متقلبة أجبرت الشركات على التعامل مع العواقب غير المتوقعة لتدخلاته الرئاسية.

كما ظهرت مخاطر اقتصادية كبيرة؛ إذ أدت سياسات الإدارة - من تعريفات جمركية شديدة وإجراءات تجارية انتقامية - إلى زيادة التكاليف للصناعات غير التصنيعية التي تعتمد على المبيعات الخارجية وسلاسل التوريد. كما أضاف تسييس «الاحتياطي الفيدرالي» تحديات إضافية؛ فمن خلال تقويض استقلالية «الاحتياطي الفيدرالي» وإدخال اعتبارات سياسية في قرارات السياسة النقدية، خلقت الإدارة بيئة اقتصادية يتزايد فيها معدل عدم اليقين، كما زادت سياسات الهجرة من تفاقم تحديات العمالة للشركات، خاصة تلك التي تعتمد على العمال المهاجرين.

ولكن ما دعا إلى وصف هذه الشركات بالنفاق والتملق هو درجة التغيير التي شهدتها في خطابها؛ فهذه هي نفس الشركات التي هاجمت الحكومة الأميركية إبان حادثة قتل الشرطة للمواطن من أصول أفريقية فلويد، وهي التي منعت العقود عن الشرطة الأميركية لهذا السبب، وهي نفس الشركات التي ضمّنت في لوائحها نسباً لتوظيف المثليين والمتحولين جنسياً، وهي التي التزمت التزامات صارخة بسياسات ترتبط بالتغير المناخي وجعلتها في صلب استراتيجياتها، وكان ذلك بكل بساطة لأن الإدارة الأميركية حينها داعمة لهذه التوجهات، وهي الآن - وببساطة أيضاً - تتخلى عنها مع الرئاسة الجديدة، مع ابتعاد ومعاداة التيار العام الأميركي عن حركة «ووك».

إن ما فعلته الشركات الأميركية خلال الشهرين الماضيين هو أمر متوقع؛ فهي كيانات تجارية تسعى للربحية، والنفاق ليس في تغيرها من اتجاه الإدارة السابقة إلى اتجاه الإدارة الحالية، بل في الإعلان عن أن تبني المواقف السياسية هو من باب قناعة، فيما الواقع أنه لأهداف ربحية بحتة، ولم يكن التغيير الأخير ليكون لو لم يفز ترمب بالانتخابات. وقد يتغير هذا الموقف كلياً عند انتهاء فترته وتولي تيار آخر الرئاسة، والعاقل من يدرك أن ما تصرح به هذه الشركات هو ما يجلب لها الربحية، وما يسلط الأضواء الإيجابية على ملّاكها، ولا شيء غير ذلك.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط