في عالمنا اليوم الذي تتزايد فيه المخاوف من تغير المناخ وندرة الموارد الطبيعية، أصبح من الضروري على الباحث الاقتصادي دراسة نماذج اقتصادية جديدة تسهم في تحقيق الاستدامة. ومن بين هذه النماذج التي تحتاج المزيد من الدراسة يبرز مفهوم "الاقتصاد الدائري" كأحد بدائل النموذج الاقتصادي التقليدي الخطي. لكن هل يمكن أن يُعتبر الاقتصاد الدائري حقاً حلاً شاملاً لمشاكل البيئة والمنتج والمستهلك، أم أنه مجرد فكرة وراؤها تحديات كبيرة؟، يُعد الاقتصاد الدائري بمثابة فكرة تتجاوز حدود المألوف حيث يوجد الكثير من التطبيقات العملية للاقتصاد الدائري أحدثت تحولاً جذرياً في كيفية تعامل المنتجين مع الموارد. عندما حلّت بديلاً عن اتباع النموذج الخطي الذي كان سائداً لعقود طويلة والذي يعتمد على الخط التقليدي التالي "استخراج - تصنيع - استهلاك - التخلص"، بينما في نموذج الاقتصاد الدائري سوف يسعى المنتجون إلى "إغلاق الحلقات". بمعنى آخر، سوف يعززون من تطبيق هذا النموذج من إعادة استخدام الموارد وتدويرها بشكل مستدام، مما يقلل من عمليات الفقد ويطيل دورة حياة المواد.
أما بالنسبة للعوائد الاقتصادية للمملكة العربية السعودية من تبني الاقتصاد الدائري فهي تتمثّل في الفرص الحقيقية من إحداث تغيير ات جوهرية من ناحية تحسين كفاءة الإنتاج في الاقتصاد، ودعم ثقافة الاستهلاك في المجتمع، ونتيجة ذلك سوف ينعكس إيجابياً على البيئة. من خلال مراجعة بعض النماذج التي قامت بتطبيق مراحل الاقتصاد الدائري، يمكننا القول مبدئياً: إن هناك جانبين إيجابيين لذلك، وهما: أولاً: إنه نموذج يتيح للمنتجين فرصة الحفاظ على الموارد الطبيعية، التي باتت مهددة بالنفاد، من خلال تخفيض الاستهلاك والتخلص من الهدر، ثانياً: إن تقليل النفايات وإعادة تدوير المواد يمكن أن يسهم بشكل كبير في تخفيف الضغط البيئي، وهو ما نحتاجه بشدة في ظل أزمة النفايات العالمية، مما يسهم في الحفاظ على البيئة للأجيال القادمة.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يخلق الاقتصاد الدائري فرص عمل جديدة لتخصصات نوعية في قطاعات جديدة قد يكون أغفلها المستثمر، خصوصاً في مجالات مثل إعادة التدوير وصيانة المنتجات. وهذا قد يكون حافزاً اقتصادياً إضافياً أشبه باستحداث رافعة اقتصادية جديدة توطد من النمو الاقتصادي، وتحفّز الابتكار في المملكة العربية السعودية، ومن الأمثلة التي رُوجِعت حول تطبيق النموذج في منظومتها الإنتاجية وأثبتت جدواها، ويمكن الاستفادة من تجاربها، ما يلي:
1. شركة باتاجونيا: وهي شركة متخصصة في إنتاج الملابس والتجهيزات الرياضية، وقد تبنت نموذج الاقتصاد الدائري من خلال برنامجها الذي أطلقت عليه "Worn Wear"، الذي أتى ليشجع العملاء على إصلاح وإعادة تدوير منتجاتهم لتتم إعادة استخدامها بدلاً من التخلص منها. كما أنها ابتكرت خدمة يتم فيها استبدال الملابس القديمة بخصومات على منتجات جديدة.
2. شركة آيكيا: عملاق الأثاث السويدي، ويملك فروعاً كبيرة منتشرة منها ما هو داخل السعودية قد تبنوا مفهوم الاقتصاد الدائري في تصميم منتجاتهم، ويستطيع المتسوق أن يرى تفاصيل ذلك على كل منتج، حيث أتاح ذلك زيادة استخدام المواد القابلة لإعادة التدوير، وتقليل النفايات في العالم.
3. شركة تيسلا: عملاق إنتاج السيارات الكهربائية تسعى إلى تحقيق استدامة في صناعة السيارات الكهربائية من خلال تطوير تقنيات إعادة تدوير البطاريات واستخدام المواد القابلة للتدوير في تصنيع السيارات.
لقد أسهم العديد من العلماء الرائدون في تطوير مفهوم الاقتصاد الدائري، ومن أبرزهم: والتر ستاهيل وهو مهندس معماري وخبير اقتصادي، صاغ مصطلح "من المهد إلى المهد". ورومان فلاكي وهو اقتصادي فرنسي، يعد من أبرز المدافعين عن الاقتصاد الدائري في العالم وله مؤلفات عديدة يشرح ويدافع ويدعو فيها إلى هذا النموذج الجديد. وكريس جادسون وهو الباحث الذي اتخذ مجال الاقتصاد الدائري تخصصاً له، حيث قام بتطوير العديد من النماذج التي تركّز على كيفية تحقيق الكفاءة في استخدام الموارد، وإعادة تدوير المواد بطرق مبتكرة.
استكمالاً لما تم ذكره، يجدر بنا التنويه إلى أنه يوجد هناك مجموعة من التحديات التي ينبغي على الباحثين لدراسة جوانبها وأخذها بعين الاعتبار عند تطبيق هذا النموذج الدائري بشكل أوسع في المملكة. هذه التحديات يمكن اختصارها في التالي:
1- التكلفة: يتطلب التحول إلى هذا النموذج استثمارات ضخمة في التكنولوجيا والبنية التحتية، وهو ما قد يكون عائقاً للكثير من الشركات، ولكن بدراسة تخفيض التكلفة فسوف نخرج بابتكارات قد تجعل من تطبيق النموذج أمراً ممكناً.
2-التعقيد: يتطلب نظام الاقتصاد الدائري تنسيقاً وتعاوناً بين العديد من الأطراف مثل (البلديات، والمنتجين وبعض الجهات الداخلية والخارجية)، مما قد يعقد من عملية الانتقال فلذلك قد يكون توحيد الإجراءات لمثل هذه النموذج أمراً جيداً.
3- البطء: قد يستغرق الانتقال إلى اقتصاد دائري وقتاً طويلاً نظراً للتغيُّرات اللازمة في التصميم والإنتاج. وهذا قد يجعل الدفع بعمليات استحواذ أو اندماج بشكل أكثر جراءة لتسريع الانتقال من الاقتصاد الخطي إلى الدائري، كما حدث في رفع حصة شركة أرامكو وبترورابغ، الذي سوف يطبق التكامل الرأسي ابتداءً من أول استخراج البترول وحتى إنتاج وتسويق المنتجات.
4- عدم كفاية الحوافز: قد تكون الحوافز الاقتصادية الحالية غير كافية لتشجيع الشركات على تبني ممارسات دائرية. مما يطرح فكرة إمكانية النظر في تقديم بعض الخصومات، أو الدعم للشركات التي تطبق مثل هذا النموذج لديها.
رغم كل التحديات التي سبق ذكرها، يمكن القول: إن الاقتصاد الدائري ليس مجرد صيحة جديدة في عالم الاقتصاد، بل هو خطوة حقيقية نحو تحقيق الاستدامة البيئية بشكل خاص. وبلا شك فهذه الخطوة تمثّل فرصة مهمة جداً لتقليل الأثر البيئي، وضمان استدامة الموارد الطبيعية، ورفع جودة الحياة التي هي من مستهدفات رؤية 2030، كما أنه بمبادرة السعودية الخضراء يتم أيضاً تعزيز هذا المفهوم، من خلال هدف تقليل الانبعاث الكربوني وحماية 30% من المناطق البرية والبحرية. إن نجاح هذا النموذج يعتمد على قدرتنا في التغلب على التحديات وتطبيقه بطريقة أكثر شمولية من خلال التعاون بين جميع أركان الاقتصاد سواء الكلي أو الجزئي بما فيه ذلك المجتمعات من خلال دعم واستحداث الأنظمة المناسبة، وترسيخ الوعي لدى الأفراد. نتيجة لذلك، من الممكن أن يكون الاقتصاد الدائري جزءاً أساسياً من حل مشاكلنا البيئية والاقتصادية، ويقودنا نحو مستقبل أكثر استدامة.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد ديسمبر 2024