متى يحين التغيير؟

16/12/2024 0
د. عبدالله الردادي

سؤال يُطرح على مستويات عدة، من الحكومات والمؤسسات والأفراد، فعندما تكون الأمور على ما يرام، يرضى الغالبية بما يُعرف بـ«الوضع الراهن»، سائرين على مبدأ «عندما تسير الأمور بشكل جيد فلا داعي للتغيير»، وحتى التغيير عند هذه الغالبية عادة ما يكون طفيفاً، ولكن تكلفة عدم التغيير في المقابل قد تكون عالية جداً، وقد تصل في بعض الأحيان إلى حدوث أزمات سواء على شكل أزمات اقتصادية عند الدول، أو إفلاس عند المؤسسات، أو خروج من سوق العمل على مستوى الأفراد. هذا ما ناقشه الفيلسوف الاجتماعي «تشارلز هاندي» الذي توفاه الله الأسبوع الماضي عن عمر ناهز الثانية والتسعين في كتابه «المنحنى الثاني»، الذي طرح فيه أفكاراً جريئة عن ضرورة التغيير، ويشرح هاندي أن كل فرد ومؤسسة ومجتمع يسير على مسار معين، يُطلق عليه المنحنى الأول، الذي يبدأ بالنمو، ثم يصل إلى ذروته، وأخيراً يبدأ في التراجع، ويكمن التحدي في التعرف على اللحظة المناسبة للبدء في منحنى ثانٍ جديد يضمن استمرار النمو والبقاء قبل أن يبدأ المنحنى الأول في الانحدار.

على سبيل التبسيط، فإن الشركات عندما تكون رابحة، فإنها قلّما تحاول إيجاد نشاطات جديدة، مكتفية بما تحققه من أرباح، وساعية إلى كسب حصص سوقية أكبر، ومن الناحية السيكولوجية، وعندما تسير الأمور بشكل جيّد، فالجميع يتوقع أن يستمر الوضع كذلك، ولا يحدث التغيير إلا عندما تقع هذه الشركات في أزمات، حينها يكون التغيير مكلفاً من ناحية الوقت وكذلك التكلفة المادية، وما يناقشه هاندي في كتابه، أن الشركات يجب أن تبدأ التغيير قبل أن تصل إلى أوجها، لأنه عندما تبدأ الأزمات فإن التغيير قد لا يكون صعباً فحسب، بل قد يكون غير ممكن على الإطلاق، وينطبق المبدأ ذاته على الحكومات والأفراد، فمن غير الدارج أن يبدأ الفرد في اكتساب مهارات جديدة وهو على رأس العمل، في المقابل وفي حال فقد وظيفته ستكون طاقته الكاملة موجهة نحو البحث عن وظيفة، مما يصعب فرصة اكتساب مهارات جديدة.

وضرب هاندي في كتابه المثال على التغيير بستيف جوبز مؤسس «أبل»، فعندما كانت الشركة تنتج الحواسيب، قرر جوبز تصنيع أجهزة «الآيبود»، واستنكر عليه الكثير الدخول في صناعة الموسيقى، ولم يلبث أن قرر إنتاج الأجهزة اللوحية «الآيباد»، وكانت الأولى من نوعها في الأسواق، وانتقل بعد ذلك إلى الجوالات الذكية، حيث أنتج «الآيفون» الذي يشكل الآن نحو ثلث الحصة السوقية للجوالات الذكية في العالم. ولم يرض جوبز بحالة «الوضع الراهن» التي كان عليها عندما كانت شركته منتجة للحواسيب فقط، بل قرّر التغيير، وحصد نتائج ذلك بأن أصبحت شركته إحدى أكبر الشركات في العالم من ناحية القيمة السوقية، وبالطبع لم ينسَ هاندي التذكير بما حدث لشركة «كوداك»، حينما لم تنح نحو التغيير، فخرجت من السوق عند ظهور الكاميرات الرقمية، دافعة نحو 145 ألف موظف نحو البطالة.

ومن أبرز المواضيع التي طرحها هاندي هي الحاجة إلى إعادة اختراع الذات، مؤكداً أن العالم سريع التغير، ويتطلب المرونة والانفتاح على الفرص الجديدة، سواء كان ذلك بتغيير السياسات والاستراتيجيات للحكومات والمؤسسات، أو الوظائف للأفراد، موضحاً أن «المنحنى الثاني» هو فرصة للنمو لا ردة فعلٍ على الفشل، واستمد هاندي - الذي نشر هذا الكتاب بعد أن جاوز الثمانين من عمره - أفكاره الجريئة لهذا الكتاب من ملاحظاته وخبراته التي شملت العمل في شركة «شل»، والتدريس في الجامعات، وتأليف الكتب، وإلقاء المحاضرات والندوات، وهو قد طبّق هذا المبدأ على نفسه، حيث غيّر مسار عمله عدة مرات، مؤمناً أن إعادة الاختراع ليست فقط ضرورة بل هي مصدر للتجديد والإشباع، بالطبع فإن التغيير نفسه قد يكون مكلفاً، ويستدعي وجود قادة ذوي رؤية وحكمة، لديهم القدرة على أخذ المخاطر وموازنتها مع مخاطر عدم التغيير، وأن يدرك هؤلاء القادة أن التغيير قد يستغرق وقتاً طويلاً حتى يؤتي ثماره.

إن ما طرحه هاندي، سواء في كتابه «المنحنى الثاني» هو دعوة للتأمل للأفراد والمؤسسات والمجتمعات لإعادة التفكير في مساراتهم، والاستعداد للمستقبل بفاعلية، وقدّم الراحل رؤى عملية وملهمة على حد سواء، بحيث تقدم خريطة طريق للتعامل مع التغيير، والعثور على مسارات جديدة للنمو والازدهار، داعياً القرّاء لتحدي افتراضاتهم، واحتضان عدم اليقين، والتعامل مع المستقبل بشجاعة وإبداع، ومن خلال القيام بذلك، يرى أنه يمكننا خلق عالم أكثر ابتكاراً ومرونةً.

 

 

نقلا عن الشرق الأوسط