التنقل مسألة حضارية، فكلما ازداد التحضر عمقا في الدولة تنوعت أدوات النقل فيها، وتراجع النقل وأدواته من مؤشرات التراجع الحضاري، ذلك أن التحضر مدعاة للكثافة السكانية التي تبحث عن أسباب الحضارة المختلفة، خاصة فئات الشباب، لذلك تستدعي الأمم أدوات جديدة لصناعة النقل، بغض النظر عن التكلفة. خطوط المترو (وهي في التعريف تعني سكة حديدية كهربائية تعمل في المدينة تحت سطح الأرض، وتسمى المترو في فرنسا، والتيوب (الأنبوب) في لندن، ولها أسماء عدة مختلفة) من أكثر نماذج النقل التي تسعى إليها الدول، رغم أنها مكلفة عند الإنشاء وغالبا ما تتأخر عند التنفيذ وتتجاوز الميزانيات حدودها القصوى وهذا في العالم أجمع، بل هناك عديد من المقالات التي تقارن بين تكلفة البناء والعوائد التجارية البحتة، وتظهر أن المترو ليس مجديا اقتصاديا إذا تم استخدام معايير مثل فترة الاسترجاع، لكن الأمر ليس تجاريا فحسب بل للمترو منافع اقتصادية شتى تعود على المجتمع، ومن بين ذلك تخفيض تكلفة التنقل داخل المدينة، خاصة إذا أصبحت شديدة الازدحام.
كقاعدة عامة، فإن المترو عادة لا يحقق نجاحا كبيرا في تخفيف الازدحام، ذلك أنه بذاته يكون سببا في تدفق الناس على المدينة للسياحة والعمل الدائم وحتى المؤقت، لكنه يقدم نموذجا بديلا مختلفا لتكلفة النقل داخل المدينة، بغض النظر عن الوقت، وهذه نقطة مهمة في مفهوم اقتصادات المترو، فهو قد لا يحقق وفرا معقولا في الوقت كما قد يحاول البعض الترويج لذلك، بل ليس هناك مدعاة للمقارنة بين وقت التنقل بالمترو وغيره، فهو في أحيان ومناطق معينة قد يأخذ وقتا أطول، لكن أهم مزاياه تظهر في أنه يحقق وفرا هائلا في تكلفة النقل على الفرد، وهذا مهم جدا لشرائح عديدة من الناس، خاصة السائح وأصحاب العمل المؤقت، عندما تصبح تكلفة التنقل عبر سيارات الأجرة كبيرة جدا نظرا لكثافة الحركة المرورية، فكلما زادت مدة التوصيل ارتفعت التكلفة.
لذلك عندما أقول إن المترو "فعّال من حيث التكلفة"، يجب أن يكون ذلك ضمن معادلة تكلفة النقل الخاصة بكل شخص، فمثلا يعد التنقل بسيارات الأجرة للزائر للمدينة مكلفا جدا، حيث ينتقل الشخص من مكان إلى آخر بتكلفة تتجاوز 15 ريالا، كما أن استخدام سيارة مستأجرة لبعض الوقت مرهق ومكلف أيضا، وفي ظروف العمل في المناطق المزدحمة قد يكون موقف السيارة مكلفا للغاية أو بعيدا عن منطقة العمل بشكل مرهق، وأيضا قد يتسبب الموظفون في فشل المشاريع والمحال المجاورة للمكتب، والتجربة واضحة جدا في مشاريع عقارية جبارة ومولات في الرياض فشلت بسبب قيام الموظفين في المكتب بحجز كافة المواقف المتاحة للمتسوقين، ما أفشل المول المصاحب للمبنى العقاري وأفشل مشروعا مهما. في هذه الموضوعات وغيرها يلعب المترو دورا بارزا في معالجة احتياج الزائرين مؤقتا للمدن الكبرى، فهو يحقق وفرا هائلا في التكلفة، لكن مرة أخرى ليس بالضرورة أن يحقق وفرا في الوقت، ذلك أن من طبيعة المترو إنفاق كثير من الوقت في الانتظار.
يتميز المترو إضافة إلى الوفر في تكلفة النقل بأنه يضع النقل بطريقة يمكن التنبؤ بها للحفاظ على مواعيدك، وهذا يجعله متفوقًا على جميع الوسائل الأخرى، فقيادة السيارة في مدينة مزدحمة في ظل مواعيد دقيقة للعمليات مثلا والاجتماعات المهمة قد تصبح عملية محفوفة بالمخاطرة، ذلك أن وقوع حادث في الطريق قد يضاعف وقت الانتظار بطريقة لا يمكن التنبؤ بها إطلاقا، لذلك يصبح التنقل عبر المترو ممتازا جدا عندما يتطلب الأمر الوصول إلى مقار العمل في وقت محدد بالضبط، هنا يصبح استخدام أدوات ضبط الوقت مناسبا وفعالا.
لكن مشكلة شبكات المترو في العالم أجمع أنها غير كافية للوصول إلى معظم أجزاء المدينة، وهذا في كل العالم، لذلك تسعى بعض العواصم من أجل تعظيم منفعة الوقت بالذات في تطوير حافلات لا تتشارك نفس المسارات مع السيارات، ما يزيد من فاعلية ضبط الوقت، التي تعد أهم خصائص المترو وشبكاته.
نقلا عن الاقتصادية