روّاد الأعمال وفخ التقنية

03/12/2024 0
د. أحمد حسن النجار

في مايو 2022، كتبتُ مقالةً بعنوان: "روّاد الأعمال وتوهم الندرة"، ووعدتُ حينها بمقالٍ جديد حول "روّاد الأعمال وفخ التقنية". وعلى الرغم من تأخري بسبب الانشغال، إلا أن الظروف الحالية تجعل هذا الموضوع أكثر أهمية، خاصةً مع التباطؤ الذي شهده تمويل الشركات الناشئة خلال الفترة السابقة نتيجةً لارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، وضعف عمليات التخارج لصناديق رأس المال الجريء وبالتالي عدم توافر سيولة كافية للاستثمار في جولات جديدة، وتعرض الشركات الناشئة لاختبار حقيقي لصلابة نماذج أعمالها، ومعايشتي عن قرب لفشل العديد منها بسبب ذلك، في عالم ريادة الأعمال المتسارع، يسود اعتقادٌ شائعٌ بأن تبنّي التقنيات الحديثة يشكّل شرطًا أساسيًا لتحقيق النجاح. فكثيرٌ من روّاد الأعمال يتصورون أن تطوير منتجاتٍ أو خدماتٍ تعتمد على تقنيات متقدمة هو المفتاح لجذب العملاء والمستثمرين. ولكن، هل يمكن للتقنية وحدها أن تضمن النجاح؟

يقع العديد من روّاد الأعمال في "فخ التقنية"، إذ يُبالغون في تطوير منتجاتٍ تعتمد على ميزاتٍ تقنيةٍ فائقةٍ دون دراسةٍ كافيةٍ للسوق أو احتياجات العملاء الفعلية (Product-Market Fit) وتطوير وتعديل نموذج العمل بناء عليهما.

يتمثل فخ التقنية في التركيز المفرط على تطوير منتجاتٍ أو خدماتٍ مُعقّدةٍ تعتمد على أحدث التقنيات، ظنًّا من رواد الأعمال أنّ ذلك سيُثير إعجاب المستثمرين، والسوق المستهدف، وبالتالي يضمن النجاح. لكن في الواقع، هذا الهوس قد يُؤدي إلى نتائج عكسية تُهدّد بقاء المشروع الناشئ، كما يُؤدي إلى إغفال جوانب حاسمة تُساهم في نجاح المشروع واستمراره.

فما ما هي مخاطر الوقوع في فخّ التقنية؟

(1) إهدار الموارد: قد يُؤدّي التركيز المُفرط على التقنية إلى إنفاق وقتٍ وجهدٍ ومالٍ كبيرٍ على تطوير ميزاتٍ تقنيةٍ مُعقّدةٍ قد لا يحتاجها العملاء في الواقع.

(2) تعقيد تجربة المستخدم: قد تُؤدّي الميزات التقنية المُفرطة إلى جعل المنتج أو الخدمة مُعقّدًا ويصعب استخدامه، مما يُنفّر العملاء منه، ويُقلّل من فرص النجاح.

(3) إغفال التخطيط التجاري: قد يُؤدّي التركيز الزائد على التقنية إلى تهميش الجوانب الأخرى مثل التسويق، واستراتيجية المبيعات، وبناء علاقات العملاء.

(4) ارتفاع التكاليف: قد تتطلّب التقنيات المُتقدّمة تكاليف باهظة للتطوير والصيانة، مما قد يُؤثّر على ربحية المشروع ويُزيد من مخاطره المالية.

(5) صعوبة التطوير المُستقبلي: قد تُعيق الأنظمة التقنية المُعقّدة عمليات التحديث والتطوير، مما يُقلّل من مرونة المشروع ويُعيق تطوّره.

ولعل بالمثال يتضح المقال، فيما يلي أمثلة حية لشركات ناشئة حصلت على استثمارات بملايين الدولارات، لكنها وقعت في "فخ التقنية" مما أدى إلى فشلها:

(1) تطبيق Quibi وهو تطبيق فيديو قصير حصل على تمويلٍ ضخمٍ (1.75 مليار دولار)، واعتمد على تقنياتٍ متقدمةٍ مثل تغيير اتجاه الشاشة أفقيًا ورأسيًا حسب طريقة مسك الهاتف، لكنه فشل في جذب الجمهور وذلك لأنه لم يُقدّم قيمةً مُضافةً مقارنةً بالتطبيقات الأخرى مثل TikTok و YouTube التي تُقدّم محتوى قصيرًا مُتنوعًا مجانًا. كما أن قيود مشاركة المحتوى، أعاقت انتشاره، وساهمت في فشل التطبيق بعد أشهر قليلة من إطلاقه.

(2) شركة Jawbone كانت من الشركات الرائدة في مجال الأجهزة القابلة للارتداء، مثل سماعات Bluetooth وسماعات الرأس وسوارات اللياقة البدنية، لكنها أفرطت في التركيز على التقنية والميزات المُتقدّمة دون الاهتمام بتقديم قيمة حقيقية للعملاء أو مُراعاة أسعار مُنتجات المنافسين، مما أدّى إلى ارتفاع تكاليفها وخسارتها لحصّتها في السوق، وانتهى بها الأمر إلى الإفلاس.

(3) شركة Theranos وهي شركة تقنية حيوية ادّعت أنها طوّرت تقنيةً ثوريةً لإجراء الفحوصات الطبية باستخدام كميةٍ قليلةٍ من الدم، وحصلت على تمويلٍ ضخمٍ (أكثر من 700 مليون دولار)، وقُيّمت بـ 9 مليارات دولار، ولكنها فشلت بسبب عدم واقعية ادعاءاتها وعدم كفاءة تقنيتها.

ينبغي على روّاد الأعمال النظر إلى التقنية كوسيلة لدعم المشروع وتعزيز قيمته، وليس كغاية في حد ذاتها. ولتحقيق التوازن وتجنّب الوقوع في فخ التقنية، يُنصح بطرح الأسئلة التالية والتفكير في هذه الجوانب قبل الانغماس في التطوير التقني للفكرة الناشئة:

(1) فهم احتياجات العملاء: هل يُقدّم المنتج أو الخدمة حلولًا لمشاكل حقيقية يواجهها العملاء، وهل تُضيف الميزات التقنية قيمةً حقيقيةً للعملاء؟

(2) بساطة تجربة المستخدم: هل يُمكن للعملاء استخدام المنتج أو الخدمة بسهولة وفهم وظائفه؟

(3) ملاءمة المنتج للسوق: هل يُوجد طلبٌ حقيقيٌ في السوق على هذا المنتج أو الخدمة؟ وهل السوق القابل للخدمة كبيرًا بما يكفي ليكون هناك جدوى اقتصادية من طرح المنتج؟

(4) التكلفة: هل يُمكن تقديم المنتج أو الخدمة بسعرٍ مُناسبٍ يُحقّق الربحية ويُنافس في السوق؟

خلاصة القول: التقنية – على أهميتها - ليست ضمانًا للنجاح، بل هي أداة تُستخدم لتعزيز قيمة المنتج وخدمة احتياجات العملاء، حيث يكمن النجاح الحقيقي للمشروع الناشئ في فهم السوق بعمق، وتلبية احتياجاته الفعلية، مع التركيز على تطوير منتجٍ بسيطٍ وفعّالٍ يُقدّم قيمة ملموسة، ويُتيح للمستخدمين تجربة مريحة وسهلة.

 

 

خاص_الفابيتا