الهدف من خفض معدلات الفائدة، كما حدث مرتين بمقدار 0.25% في الشهرين الماضيين، يعود إلى رغبة الفيدرالي الأمريكي في تحفيز الاقتصاد والوفاء بما أنيط به من مهام متعلقة بالتحكم في مستويات الفائدة والبطالة في البلاد، ويأتي ذلك نتيجة السيطرة الظاهرة على نسبة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، ما يعرف بالتضخم. ومع ذلك لا تزال معدلات الفائدة على الآجال المتوسطة والطويلة مرتفعة، بل إنها ارتفعت أكثر في الأشهر الثلاثة الماضية، فما الذي يحدث هنا؟ هل سوق السندات تكذب الفيدرالي؟ أم أنها تتحداه؟، التحكم الفعال والمباشر للفيدرالي يأتي على المدى القصير، ولذا تظهر مباشرة تأثيرات خفض الفائدة الفيدرالية المستهدفة بين 4.5 إلى 4.75% على عائد سندات 3 أشهر، بينما سندات 5 سنوات ارتفعت من 3.6 إلى 4.3%، وسندات 10 سنوات من 3.8 إلى 4.4%، ومثلها بقية السندات المتوسطة والطويلة، ما يعني أن القروض العقارية وغيرها من القروض طويلة الأجل لم تستفد حتى الآن من عمليات خفض الفائدة، بل على العكس ارتفع عائد قروض 30 عاماً من نحو 6% إلى 7% منذ سبتمبر!
عندما لا تتجاوب سوق السندات مع الفيدرالي فالسبب أن سوق السندات يحكمها العرض والطلب وليس قرارات الفيدرالي، بل حتى على المدى القصير لا يزال العرض والطلب سيد الموقف وهو ما يحدد معدل الفائدة الفيدرالية التي يستهدفها الفيدرالي عند 4.5%، لكن هنا يستطيع الفيدرالي التدخل بسهولة نسبية لتوجيه تلك الفائدة لتقترب من السعر المستهدف، بينما في السندات المتوسطة والطويلة فالعملية أصعب بكثير، حيث يحتاج الفيدرالي إلى شراء هذه السندات إن كان يطمح في تخفيض معدلات الفائدة عليها. لكن كيف له أن يشتري السندات في الوقت الذي لديه برنامج معلن لخفض حجم ما لديه من سندات، أي إن عليه بيعها لا شراءها؟
عندما وصل حجم أصول الفيدرالي إلى نحو 9 تريليونات دولار في أبريل 2022 وقرر الفيدرالي البدء في التخلص من هذه الأصول، تركها تنتهي دون شراء بدائل لها، ما يعني شطبها من قائمة المركز المالي وخفض حجم الالتزامات عليه، وبالفعل بدأت تنخفض هذه الأصول وهي الآن 7 تريلونات دولار، أي إنه بالفعل استطاع التخلص من نحو تريليوني دولار من سندات الخزانة وسندات الرهن العقاري، وهنا يأتي التحدي، حيث إن هذا الخفض يأتي على حساب سحب السيولة من الأسواق، الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع معدلات الفائدة لا خفضها كما يرغب الفيدرالي.
حتى الآن لم يقم الفيدرالي ببيع أي من السندات التي لديه، وهي غالباً سندات مددها تراوح بين عامين و30 عاماً، وإلا لاستطاع خفض حجم الأصول بشكل سريع وفعال. لذا فالطريقة المتبعة هي أن يقوم الفيدرالي بالتخلص (وليس البيع) من سندات بمقدار 60 مليار دولار شهرياً وسندات رهن عقاري بمقدار 35 مليار دولار كذلك شهرياً. ولا توجد لديه إشكالية في التخلص من سندات الخزانة بسبب حجمها وكثرتها وتنوعها لديه، لكن لديه صعوبة في التخلص من سندات الرهن العقاري التي كان يقوم بشرائها منذ اندلاع الأزمة المالية في 2008، والسبب أن معظم هذه السندات التي تم شراؤها من مؤسسات الرهن العقاري الأمريكية لا تنتهي قبل موعد استحقاقها لأن المقترضين في العامين الماضيين لا يقومون بالسداد المبكر ولا إعادة التمويل بسبب ارتفاع معدلات الفائدة.
سوق السندات تتحرك نتيجة قوى العرض والطلب، وعلى الرغم من أن الفيدرالي يمتلك قوى طلب وعرض مهولة إلا أنه حتى الآن لم يقم ببيع ما لديه من سندات وإلا لأدى ذلك إلى مزيد من ارتفاع العوائد، وبالمثل فهو لا يقوم بشراء أي من سندات الخزانة وإلا لأدى ذلك إلى خفض عوائد السندات المتوسطة والطويلة! فالتحديات أمام الفيدرالي كبيرة، فهو لا يستطيع شراء السندات التي تطرحها وزارة الخزانة بشراهة لدعم الميزانية الحكومية، ولذا هي تعتمد في ذلك على كبار تجار السندات والحكومات الأجنبية والبنوك وشركات التأمين، لكن الفيدرالي يستطيع التدخل في أي وقت لو حدث هناك اختلالات في سوق السندات. ومرة أخرى سوق السندات حالياً غير مقتنعة بأن التضخم تحت السيطرة على المدى الطويل نسبياً، ولذا لا تزال عوائد السندات ترتفع على الرغم من تحركات الفيدرالي نحو خفض الفائدة.
نقلا عن الاقتصادية