تعتمد كثير من دول العالم التي تتمتع بنضج وإدراك كامل لمتطلبات شعوبها واستقرارها، وتحقيق التقدم والنمو الاقتصادي على إدارة سياساتها الاقتصادية بشكل يضمن لها الاستدامة والاستفادة من كل فرصة تعظّم من قدرتها الاقتصادية؛ وتحقق الرفاه لمجتمعاتها وشعوبها، وقد مرت المملكة العربية السعودية بعدد كبير من التحديات التي استطاعت بفضل سياساتها الحكيمة أن تتجاوزها بأقل الخسائر. ولعل من أكبر التحديات التي واجهت المملكة هو ارتفاع مداخيل المملكة من النفط في بداية السبعينات من القرن الماضي، وعدم قدرة الاقتصاد السعودي حينها على استيعاب هذه الأموال في ظل التخوف من استثمارها في مناطق غير آمنة أو في دول قد تمارس ضغوطاً على المملكة، وتحرمها من الاستفادة من أموالها في الوقت الذي ترغب في الاستفادة منها.
ولذا قامت المملكة منذ عقود بإنشاء عدد من المؤسسات المالية التي أسهمت بشكل كبير في تعزيز التنمية في المملكة، واستقطاب جزء كبير من هذه الأموال، مثل صندوق الاستثمارات العامة، والصناديق التنموية الأخرى كالصندوق الصناعي، والصندوق العقاري، والصندوق الزراعي، وزيادة رأسمال بنك التنمية الاجتماعية (بنك التسليف) والصندوق السعودي للتنمية والمخصص لدعم الدول النامية. إضافة إلى المساهمة في عدد من المؤسسات التنموية الإقليمية والدولية مثل البنك الإسلامي للتنمية، وصندوق الأوبك للتنمية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، كما أسهمت في إنشاء الصندوق الدولي للتنمية الزراعية.
صادف يوم 1/9/2024م الماضي مناسبة اليوبيل الذهبي أي مرور 50 عاماً على انشاء الصندوق السعودي للتنمية حيث صدر تأسيسه بموجب المرسوم الملكي رقم م/48 الصادر في 1/9/1974م الموافق 14/8/1394هـ، وبدأ أعماله بتاريخ 1/3/1975م الموافق 18/2/1395هـ، لقد تأسس الصندوق بهدف الإسهام في تمويل المشاريع الإنمائية في الدول النامية عن طريق منح القروض لتلك الدول، وتقديم منح المعونة الفنية لتمويل الدراسات والدعم المؤسسي لتلك الدول. وقد بدأ الصندوق برأسمال قدرة 10 مليارات ريال، وتمت زيادته ثلاث مرات ليصل إلى 31 مليار ريال.
بلغ عدد الدول المستفيدة من الصندوق بنهاية عام 2023م 93 بلداً ومنظمة دولية موزعة على النحو التالي:
ويركّز الصندوق السعودي للتنمية في مساعداته للدول النامية على القطاعات التي لها تأثير مباشر على سكان تلك الدول مع الأخذ بالاعتبار أولويات الدول المستفيدة والميز النسبية التي تتمتع بها بلدانهم. وتتركَّز المساعدات في عدد من القطاعات ومنها: النقل والاتصالات، البنية الاجتماعية (الصحة والتعليم والمياه والإسكان والتنمية الحضرية)، الزراعة، الطاقة، الصناعة والتعدين وقطاعات أخرى (لا تدخل ضمن هذه التصنيفات).
ومع التغيُّرات المتسارعة في أولويات الدول واحتياجاتها بدأ الصندوق في تقديم قروضه لقطاعات جديدة مثل: المحافظة على البيئة والصحة، تحقيق الأمن الغذائي والمائي، توفير السكن الملائم للفئات محدودة الدخل، تطوير الصناعة وأعمال التعدين، توفير الطاقة للجميع، تنمية الموارد البشرية وتطويرها، ويسعى الصندوق إلى مساندة الدول النامية ذات الموارد الاقتصادية والمالية المحدودة، وخصوصاً تلك الدول التي لديها احتياجات تنموية أساسية، والأقل نمواً، والدول الحبيسة غير الساحلية، والأشد فقراً، والدول التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية من قلة الموارد الطبيعية وارتفاع عدد السكان. ولذلك نجد أن نشاط الصندوق متركّز في قارتي أفريقيا وآسيا، إضافة إلى سعي الصندوق أن تكون مشاريعه متوافقة مع أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أقرتها الأمم المتحدة.
دور الصندوق في دعم سياسات المملكة الاقتصادية والدبلوماسية
استطاع الصندوق السعودي للتنمية خلال عمره الذي تجاوز 50 عاماً، أن يبني علاقة متميزة جداً مع دول العالم النامية وأن ينال التقدير الكبير منهم على جهوده التنموية في هذه البلدان، وتبين ذلك من خلال دور الصندوق في حشد الأصوات للمملكة للفوز بمعرض إكسبو 2030، حيث استطاع إقناع عدد كبير من دول أفريقيا وآسيا والمحيط الهادي ودول الكاريبي بالتصويت للمملكة.
ومع ذلك مازال الصندوق لديه القدرة في دعم سياسات المملكة في التوسع الاقتصادي، وزيادة الشراكة الاقتصادية مع الدول النامية، وخصوصاً في دول أفريقيا التي تنعم بموارد اقتصادية كبيرة في قطاعات التعدين، والزراعة، واللوجستيات تستحق الانتباه. ومع توجه المملكة لتصبح منصة لتوفير المعادن النادرة، وكذلك منصة موثوقة في النقل والدعم اللوجستي، والاستراتيجية الصناعية التي تستهدف الوصول إلى صادرات غير نفطية تتجاوز 540 مليار ريال بنهاية رؤية 2030، وتحقيق الأمن الغذائي للمملكة، فإن الصندوق قادر على المساهمة في تسهيل ذلك بما يمتلك من علاقات متميزة مع هذه الدول.
مقترح للاستفادة من الصندوق السعودي للتنمية
قام الكثير من المؤسسات التنموية الحكومية أو متعددة الأطراف خلال العشرين سنة الماضية باستحداث كيانات تابعة لها تركّز على الدخول في تمويل المشاريع التجارية الخاصة، وكان لذلك الأثر الكبير في تعزيز دور هذه المؤسسات في تلك الدول، وكذلك تحقيق مكاسب مالية تساعدها في استمرار نشاطها التنموي. ومن هنا يمكننا اقتراح إنشاء صندوق استثماري بإشراف الصندوق السعودي للتنمية برأسمال مبدئي يقدر بعشرة آلاف مليون ريال مع مشاركة كيانات استثمارية في المملكة مثل صندوق الاستثمارات العامة والبنوك التجارية، وكذلك المستثمرون السعوديون للدخول في استثمارات نوعية في القارة الأفريقية التي ينبغي الالتفات لها. بناءً على هذا المقترح، سيكون الصندوق قادراً بشكل كامل على حماية الاستثمارات نظراً لما يتمتع به الصندوق السعودي من خبرة طويلة، وقدرة وموثوقية لدى الدول الأفريقية، وحرص هذه الدول على استمرار دور الصندوق كداعم للتنمية في هذه البلدان، وبالتالي ستحرص هذه الدول على تهيئة البيئة الملائمة لدخول الاستثمارات السعودية وحمايتها، ويحقق مصلحة كل الأطراف.
خاتمة
هناك مجموعة كبيرة من الممكنات التي لا تتوفر لعدد من الدول كما هي متوفرة للمملكة ومع ذلك لا يتم الاستفادة منها. فعلى سبيل المثال المملكة العربية السعودية تمتلك أكبر حصة في عدد من مؤسسات التنمية العربية والإقليمية والتي بدورها تساهم في دعم (على سبيل المثال) الدول الافريقية من خلال برامج ومشاريع تنموية وكذلك دعم القطاع الخاص في تلك الدول وتوفر ضمانات للمستثمرين والمصدرين الذين يتعاملون مع الدول الافريقية، ومع ذلك نجد ان استفادة المصدرين والمستثمرين السعوديين من هذه البرامج محدود جدا.
نظراً لما تتمتع به القارة الافريقية من موارد ضخمة والتقارب الجغرافي مع المملكة العربية السعودية، فإن المملكة قادرة أن تصبح أحد أكبر اللاعبين في مجال الاستثمار وتصدير السلع كما هي الآن أحد أكبر الممولين لمشاريع التنمية في افريقيا. هذا يتطلب تضافر جهود المؤسسات الحكومية (مثل الصندوق السعودي للتنمية) والقطاع الخاص في تحديد مشاريع وبرامج تساهم في تسهيل دخول السلع والاستثمارات السعودية لهذه القارة وتوفير الضمانات اللازمة وعقد اتفاقيات مع دول القارة تساهم في تعزيز الوجود السعودي في أسواقها.
بالإضافة لما سبق، فلدى المملكة فرصة للاستثمار في قطاع اللوجستيات في الدول الافريقية وخاصة قطاع الموانئ وتكثيف رحلات الطيران مما سيدعم دخول السلع السعودية. ومع سعي المملكة إلى أن تكون مصدراً يعتمد عليه في مجال المعادن وخاصة المعادن الحرجة والتي تدخل في الصناعات الحديثة، فهذا يتطلب تكثيف الاستثمار في قطاع التعدين الأفريقي وإنشاء مصانع لمعالجة هذه المعادن في المملكة، ومع الاستفادة من القرب الجغرافي ستكون عملية النقل أيسر وستزيد التنافسية مع المستثمرين الاخرين.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد سبتمبر 2024