عندما وقعت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 كثير من الشخصيات الاقتصادية البارزة عالمياً ممن يديرون بنوكا ضخمة أو شركات استثمارية قالوا إنهم طوال عقود قضوها في ميدان العمل لم يشهدوا ازمة مشابهة ومعقدة في تركيبتها مثل هذه الازمة وثبت ذلك فعلياً مع الثمن الضخم الذي دفعته الدول الكبرى تحديداً من خلال ضخ تريليونات الدولارات لتجاوزها ومعالجة تداعياتها، ولكن بالمقابل كانت أغلب هذه الاموال ديونا جديدة حملت على ظهر اقتصادات دولهم وضخمتها وفتحت الباب على مشاكل مزمنة مثل التضخم وتراجع القوة الشرائية لتلك العملات، وكذلك نسبة احتياطيات دول العالم منها وعلى رأسها الدولار الامريكي الذي تراجعت نسبته بالاحتياطيات الدولية من قرابة 70 الى 59 بالمائة.
ثم جاءت ازمة كورونا لتضاعف من حجم المشاكل الاقتصادية عالمياً بارتفاع حجم الديون الدولية حيث وصلت حاليا الى 315 تريليون دولار من حوالي 235 تريليرن قبل نحو ثلاثة أعوام أي أن الاقتصاد العالمي والدول الكبرى تحديدا يتغذى من الاقتراض لأن جل هذا الرقم الكبير يتركز في اميركا والدول الاوروبية والصين، لكن بكل تأكيد المستثمرون ينظرون لآثار كل تلك المشاهد في الاقتصاد الدولي بنوع من التحوط والحذر الذي ظهر بانسحابات من جزء مهم من مراكزهم بأسهم أهم الشركات العالمية المدرجة بالسوق الامريكي وغيره من الأسواق الكبرى وارتفاع استثماراتهم بالسندات الامريكية وايضا وصول اسعار الذهب الى مستويات2500 دولار للاونصة مع انخفاض باسعار النفط نتيجة لمخاوف التباطؤ بالنمو الاقتصادي في اميركا والصين فالناتج الصناعي متراجع فيهما وباميركا هو بمرحلة انكماش واضح.
اما في الصين فهناك معاناة في تصريف فائض انتاج المصانع وبعض التقارير تتحدث عن تحقيق حوالي 180 الف شركة صناعية صينية من اصل حوالي 700 الف شركة لخسائر نتيجة ضعف الطلب محلياً وخارجياً اضافة الى بوادر ارتفاع الحمائية في التجارة الدولية في وقت لا يتحمل فيه الاقتصاد العالمي اي ازمة جديدة فاوروبا تفرض رسوم على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين وترمب يعد بفرض مزيد من الرسوم على المنتجات الصينية في السوق الامريكي اذا وصل لسدة الحكم كما ان افلاس الشركات في اوروبا واليابان بكثافة اصبح ظاهرة مقلقة يضاف لكل ما ذكر الاحداث الجيوسياسية تحديدا حرب روسيا اوكرانيا والتي تتطور لمراحل خطرة جداً تنذر بتوسعها..
لكن هل ما ظهر إلى الان يعد هو الأسوأ فعلياً؟. في الحقيقة لا أحد يملك إجابة على ذلك والمقصود طبعا البنوك المركزية للاقتصادات الكبرى او حكومات تلك الدول فارتفاع النقد لدى المستثمرين الاستراتيجين بعد تخارجهم بنسبة جيدة من الاسواق لا يمكن ان يكون لاسباب مؤقتة فعلياً؛ فهي مراكز ضخمة وعادة يمكن ان يقوموا بتبديل مراكزهم من شركات نضجت بعد سنوات طويلة من الاستثمار فيها وبهذه الحالة لا يكون قرارهم هو التوجه لاستثمارات التحوط والقليلة المخاطر، بل لأسهم شركات مستهدفة ستكون هي الافضل نموا بالمستقبل وفي الوضع الحالي فإنهم اتجهوا للسندات وليس للاسهم وابقوا مراكز اقل بكثير مما كان سابقا في الاسهم.
وهذا الوضع هو من المؤشرات المهمة التي يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار كما ان ما سينتج عن الانتخابات الامريكية من فوز احد المرشحين بها سيكون له قراءة مختلفة ففوز هاريس سيعني بالضرورة توجهات استثمارية تختلف عن التوجهات في حال فوز ترمب لان لكل واحد منهما برنامج اقتصادي مختلف جذرياً عن الاخر فاميركا ومنذ 16 عاماً ما يغذي اقتصادها ثلاثة عوامل رئيسية: الفائدة المنخفضة والتيسير الكمي بتريليونات الدولارات وارتفاع الدين الحكومي الذي وصل الى 35 تريليون ارتفاعا من 10،6 تريليون خلال نفس المدة المذكورة والنتيجة تضخم يبدو انه سيكون مزمنا وانخفاض بقيمة الدولار ووزنه الدولي في احتياطيات النظام المالي العالمي والتجارة الدولية ولا يعرف هل يمكن حل تلك الاشكاليات بأكبر افتصاد عالمي فالتجاذبات السياسية الداخلية تتفاقم وتظهر خلافات حادة واتهامات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأن جذور هذه الحالة ليس فقط تلك الازمات الاقتصادية او المالية بل حربي العراق وافغانستان التي كلفت مبالغ هائلة دون مبرر، اضافة لخطأ ادارة اوباما الاقتصادي مع الصين حيث قلل من منافستها لبلاده وظهر أن جل الاستثمارات العالمية اتجهت لها وأصبحت اميركا تعاني من عجز تجاري معها يفوق 400 مليار دولار سنوياً بل ان البعض يحمل الرئيس كارتر مسؤولية الزيادة بنفقات الحكومة الفيدرالية نتيجة لتأسيسه لنظام رعاية احتماعية تتضخم تكاليفه كل عام.
الشهور المقبلة مهمة جداً لتحديد مسار الاقتصاد العالمي ومعرفة اين يقف من قرب او بعد عن الضعف الشديد او وصول بعض الدول الكبرى للركود، والمستثمرون سيبقون حالة الحذر والتحوط قائمة حتى يتم تقييم الحالة الاقتصادية العامة، ولكن السيولة ستتجه ايضاً للفرص البديلة سواء السندات او بعض السلع، وكذلك الأسواق الناشئة التي تتمتع بجاذبية نتيجة تقييمها المجدي ولعله من الجدير ذكره ان السوق السعودي من بين تلك الاسواق الجاذبة خصوصاً مع توقعات صندوق النقد الدولي لنمو الاقتصاد الوطني بنسبة 4،7 بالمائة وشهادته بمشاورات المادة الرابعة بأنه يشهد تطور غير مسبوق وادارة متقدمة حددت الاولويات في التنمية ونوعية المشاريع الداعمة للاقتصاد ومدد تنفيذها مع تقدير للحيز المالي للدولة يفي باحتياحات تنفيذ برامج رؤية 2030 ويدعم تقدم كافة القطاعات.
نقلا عن الجزيرة